الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة ، وقال أكثر الفقهاء : لا يجب . احتج داود بهذه الآية من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك ، فإن قوله : ( إذا قمتم إلى الصلاة ) إما أن يكون المراد منه قياما واحدا وصلاة واحدة ، فيكون المراد منه الخصوص ، أو يكون المراد منه العموم ، والأول باطل لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية ، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة ، وذلك خلاف الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه يصح إدخال الاستثناء عليه ، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل ، وذلك يوجب العموم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد ، وإذا بطل هذا وجب حمله على العموم عند كل قيام إلى الصلاة ، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد الله تعالى إلى سائر الدلائل ، فتصير هذه الآية وحدها مجملة ، وقد بينا أنه خلاف الأصل ، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود ، والاشتغال بالخدمة يجب أن يكون مقرونا بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم ، ومن وجوه التعظيم كونه آتيا بالخدمة حال كونه في غاية النظافة ، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة ، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف المناسب ، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه ، فيلزم وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة . ثم قال داود : ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون ، أو يقال : إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه ، قال : أما القراءة الشاذة فمردودة قطعا ، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن ، وهو أن يقال : إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل ، وأيضا فلأن [ ص: 120 ] معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى ، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها ، فلو كان ذلك قرآنا لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ ، وأما التمسك بخبر الواحد فقال : هذا يقتضي نسخ القرآن بالخبر ، وذلك لا يجوز . قال الفقهاء : إن كلمة " إذا " لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته : إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت ، ثم لو دخلت ثانيا لم تطلق ثانيا ، وذلك يدل على أن كلمة " إذا " لا تفيد العموم ، وأيضا إن السيد إذا قال لعبده : إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم ؛ فلعله يلتزم العموم ، وأيضا فله أن يقول : إنا قد دللنا على أن كلمة " إذا " في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير ، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم ، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فإنهم استدلوا على صحة قولهم بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد . قال عمر - رضي الله عنه - : فقلت له في ذلك فقال : عمدا فعلت ذلك يا عمر .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ، وأيضا فهذا الخبر يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مواظبا على تجديد الوضوء لكل صلاة ، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى : ( فاتبعوه ) بقي أن يقال : قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح ، فنقول : لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب ، والظاهر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها ، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه ، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن دلالة القرآن على قولنا لفظية ، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية ، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية ، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس ، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم . والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال : لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء ، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية : ( أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء ، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سببا لوجوب الطهارة عند وجود الماء ، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة ، وذلك يدل على ما قلناه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية