الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل السادس

                                                                                                                                                                                                                                            في قوله وإياك نستعين

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، ويدل عليه وجوه من العقل والنقل ، أما العقل فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القادر متمكن من الفعل والترك على السوية ، فما لم يحصل المرجح لم يحصل الرجحان ، وذلك المرجح ليس من العبد ، وإلا لعاد في الطلب ، فهو من الله تعالى ، فثبت أن العبد لا يمكنه الإقدام على الفعل إلا بإعانة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن جميع الخلائق يطلبون الدين الحق والاعتقاد الصدق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ففوز البعض بدرك الحق لا يكون إلا بإعانة معين ، وما ذاك المعين إلا الله تعالى ، لأن ذلك المعين لو كان بشرا أو ملكا لعاد الطلب فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الإنسان قد يطالب بشيء مدة مديدة ولا يأتي به ، ثم في أثناء حال أو وقت يأتي به ويقدم عليه ، ولا يتفق له تلك الحالة إلا إذا وقعت داعية جازمة في قلبه تدعوه إلى ذلك الفعل ، فإلقاء تلك الداعية في القلب وإزالة الدواعي المعارضة لها ليست إلا من الله تعالى ، ولا معنى للإعانة إلا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما النقل فيدل عليه آيات : أولاها : قوله وإياك نستعين . وثانيتها : قوله ( استعينوا بالله ) [ الأعراف : 128 ] ، وقد اضطربت الجبرية والقدرية في هذه الآية : أما الجبرية فقالوا : لو كان العبد مستقلا بالفعل لما كان للاستعانة على الفعل فائدة ، وأما القدرية فقالوا الاستعانة إنما تحسن لو كان العبد متمكنا من أصل الفعل ، فتبطل الإعانة من الغير ، أما إذا لم يقدر على الفعل لم تكن للاستعانة فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            وعندي أن القدرة لا تؤثر في الفعل إلا مع الداعية الجازمة ، فالإعانة المطلوبة عبارة عن خلق الداعية الجازمة وإزالة الداعية الصارفة . ولنذكر ما في هذه الكلمة من اللطائف والفوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع في العمل وههنا ذكر قوله إياك نعبد ثم ذكر عقيبه وإياك نستعين ، فما الحكمة فيه ؟ الجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كأن المصلي يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها ، فلا تمنعني من إتمامها بالموت ولا بالمرض ولا بقلب الدواعي وتغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : كأن الإنسان يقول : يا إلهي إني أتيت بنفسي إلا أن لي قلبا يفر مني ، فأستعين [ ص: 205 ] بك في إحضاره وكيف وقد قال عليه الصلاة والسلام : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ، فدل ذلك على أن الإنسان لا يمكنه إحضار القلب إلا بإعانة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : لا أريد في الإعانة غيرك لا جبريل ولا ميكائيل بل أريدك وحدك وأقتدي في هذا المذهب بالخليل عليه السلام ؛ لأنه لما قيد نمروذ رجليه ويديه ورماه في النار جاء جبريل عليه السلام وقال له : هل لك من حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، فقال : سله ، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، بل ربما أزيد على الخليل في هذا الباب ، وذلك لأنه قيد رجلاه ويداه لا غير ، وأما أنا فقيدت رجلي فلا أسير ، ويدي فلا أحركهما ، وعيني فلا أنظر بهما ، وأذني فلا أسمع بهما ، ولساني فلا أتكلم به ، وكان الخليل مشرفا على نار نمروذ وأنا مشرف على نار جهنم ، فكما لم يرض الخليل عليه السلام بغيرك معينا فكذلك لا أريد معينا غيرك ، فإياك نعبد وإياك نستعين ، كأنه تعالى يقول : أتيت بفعل الخليل وزدت عليه ، فنحن نزيد أيضا في الجزاء لأنا ثمت قلنا : ( يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] وأما أنت فقد نجيناك من النار ، وأوصلناك إلى الجنة ، وزدناك سماع الكلام القديم ، ورؤية الموجود القديم ، وكما أنا قلنا لنار نمروذ " يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " فكذلك تقول لك نار جهنم : جز يا مؤمن قد أطفأ نورك لهبي .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : إياك نستعين : أي : لا أستعين بغيرك ، وذلك لأن ذلك الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته على تلك الإعانة ، فإذا كانت إعانة الغير لا تتم إلا بإعانتك فلنقطع هذه الواسطة ولنقتصر على إعانتك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : قوله إياك نعبد يقتضي حصول رتبة عظيمة للنفس بعبادة الله تعالى ، وذلك يورث العجب فأردف بقوله وإياك نستعين ليدل ذلك على أن تلك الرتبة الحاصلة بسبب العبادة ما حصلت من قوة العبد ، بل إنما حصلت بإعانة الله فالمقصود من ذكر قوله وإياك نستعين إزالة العجب ، وإفناء تلك النخوة والكبر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية