الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل التاسع

                                                                                                                                                                                                                                            في قوله تعالى غير المغضوب عليهم ولا الضالين وفيه فوائد

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : المشهور أن المغضوب عليهم هم اليهود ؛ لقوله تعالى : ( من لعنه الله وغضب عليه ) [ المائدة : 60 ] والضالين : هم النصارى لقوله تعالى : ( قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) [ المائدة : 77 ] وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز عن دينهم أولى ، بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ، ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل ، ويحتمل أن يقال : المغضوب عليهم هم الكفار ، والضالون هم المنافقون ، وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة ، ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : ( إن الذين كفروا ) [ البقرة : 6 ] ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : ( ومن الناس من يقول آمنا ) [ البقرة : 8 ] فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله : ( أنعمت عليهم ) ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله : ( غير المغضوب عليهم ) ثم أتبعه بذكر المنافقين وهو قوله : ( ولا الضالين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين ، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 211 ] الفائدة الثالثة : قوله : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم ، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم ، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق لقوله تعالى : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) [ يونس : 32 ] ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا الاقتداء بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله : ( أنعمت عليهم ) ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الرابعة : الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب لشهوة الانتقام ، واعلم أن هذا على الله تعالى محال ، لكن ههنا قاعدة كلية ، وهي أن جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة والفرح والسرور والغضب والحياء والغيرة والمكر والخداع والتكبر والاستهزاء - لها أوائل ، ولها غايات ، ومثاله الغضب فإن أوله غليان دم القلب ، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله تعالى لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضا الحياء له أول وهو انكسار يحصل في النفس ، وله غرض وهو ترك الفعل ، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الخامسة : قالت المعتزلة : غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من الله تعالى وقال أصحابنا : لما ذكر غضب الله عليهم وأتبعه بذكر كونهم ضالين دل ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد ، أما لو قلنا إن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك محال .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السادسة : أول السورة مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمدح له ، وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته ، وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى ، ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة السابعة : دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق : أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله : أنعمت عليهم ، وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله غير المغضوب عليهم ، وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقوله ولا الضالين .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم قدم ذكر العصاة على ذكر الكفرة ؟ قلنا : لأن كل واحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفسق فكان أهم فلهذا السبب قدم .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثامنة : في الآية سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه ، فهذا العلم إما أن يقال إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولم أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العذاب الدائم ، ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه ؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث ، ولأنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر ، ويتسلسل ، وهو محال ، وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة التاسعة : في الآية سؤال آخر ، وهو أن من أنعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وأن [ ص: 212 ] يكون من الضالين فلما ذكر قوله أنعمت عليهم فما الفائدة في أن ذكر عقيبه " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ؟ والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف ، كما قال عليه السلام : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ، فقوله " صراط الذين أنعمت عليهم " يوجب الرجاء الكامل ، وقوله " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " يوجب الخوف الكامل ، وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه وينتهي إلى حد الكمال .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة العاشرة : في الآية سؤال آخر ، ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضالين ؟ والجواب أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المرادون بقوله أنعمت عليهم ، فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ) [ النساء : 93 ] وإن اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) [ يونس : 32 ] وهذا آخر كلامنا في تفسير كل واحدة من آيات هذه السورة على التفصيل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية