الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل الثالث

                                                                                                                                                                                                                                            في تقرير أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يحتاج الإنسان إليه في معرفة المبدأ والوسط والمعاد

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن قوله " الحمد لله " إشارة إلى إثبات الصانع المختار ، وتقريره : أن المعتمد في إثبات الصانع في القرآن هو الاستدلال بخلقة الإنسان على ذلك ، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال : ربي الذي يحيي ويميت ، وقال في موضع آخر : الذي خلقني فهو يهدين ، وقال موسى عليه السلام : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال في موضع آخر : ربكم ورب آبائكم الأولين ، وقال تعالى في أول سورة البقرة : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [ البقرة : 21 ] وقال في أول ما أنزله على محمد عليه السلام : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ) [ العلق : 1 ] فهذه الآيات الست تدل على أنه تعالى استدل بخلق الإنسان على وجود الصانع تعالى ، وإذا تأملت في القرآن وجدت هذا النوع من الاستدلال فيه كثيرا جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الدليل كما أنه في نفسه هو دليل فكذلك هو نفسه إنعام عظيم ، فهذه الحالة من حيث إنها تعرف العبد وجود الإله دليل ، ومن حيث إنها نفع عظيم وصل من الله إلى العبد إنعام ، فلا جرم هو دليل من وجه ، وإنعام من وجه ، والإنعام متى وقع بقصد الفاعل إلى إيقاعه إنعاما كان يستحق هو الحمد ، [ ص: 216 ] وحدوث بدن الإنسان أيضا كذلك ، وذلك لأن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور والأشكال من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، فحدوث هذه الأعضاء المختلفة يدل على وجود صانع عالم بالمعلومات قادر على كل المقصودات قصد بحكم رحمته وإحسانه خلق هذه الأعضاء على الوجه المطابق لمصالحنا الموافق لمنافعنا ، ومتى كان الأمر كذلك كان مستحقا للحمد والثناء ، فقوله : ( الحمد لله ) يدل على وجود الصانع ، وعلى علمه وقدرته ورحمته ، وكمال حكمته ، وعلى كونه مستحقا للحمد والثناء والتعظيم ، فكان قوله " الحمد لله " دالا على جملة هذه المعاني ، وأما قوله : ( رب العالمين ) فهو يدل على أن ذلك الإله واحد ، وأن كل العالمين ملكه وملكه ، وليس في العالم إله سواه ، ولا معبود غيره ، وأما قوله : ( الرحمن الرحيم ) فيدل على أن الإله الواحد الذي لا إله سواه موصوف بكمال الرحمة والكرم والفضل والإحسان قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ، وأما قوله : ( مالك يوم الدين ) فيدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يحصل بعد هذا اليوم يوم آخر يظهر فيه تمييز المحسن عن المسيء ، ويظهر فيه الانتصاف للمظلومين من الظالمين ، ولو لم يحصل هذا البعث والحشر لقدح ذلك في كونه رحمانا رحيما ، إذا عرفت هذا ظهر أن قوله : ( الحمد لله ) يدل على وجود الصانع المختار ، وقوله : ( رب العالمين ) يدل على وحدانيته ، وقوله : ( الرحمن الرحيم ) يدل على رحمته في الدنيا والآخرة ، وقوله : ( مالك يوم الدين ) يدل على كمال حكمته ورحمته بسبب خلق الدار الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وإلى ههنا تم ما يحتاج إليه في معرفة الربوبية ، أما قوله : ( إياك نعبد ) إلى آخر السورة ، فهو إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية ، وهي محصورة في نوعين : الأعمال التي يأتي بها العبد ، والآثار المتفرعة على تلك الأعمال التي يأتي بها العبد ، فلها ركنان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : إتيانه بالعبادة ، وإليه الإشارة بقوله : ( إياك نعبد ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : علمه بأن لا يمكنه الإتيان بها إلا بإعانة الله وإليه الإشارة بقوله : ( وإياك نستعين ) وههنا ينفتح البحر الواسع في الجبر والقدر ، وأما الآثار المتفرعة على تلك الأعمال فهي حصول الهداية والانكشاف والتجلي ، وإليه الإشارة بقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ثم إن أهل العالم ثلاث طوائف :

                                                                                                                                                                                                                                            الطائفة الأولى : الكاملون المحقون المخلصون ، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإليهم الإشارة بقوله : ( أنعمت عليهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والطائفة الثانية : الذين أخلوا بالأعمال الصالحة ، وهم الفسقة وإليهم الإشارة بقوله : ( غير المغضوب عليهم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والطائفة الثالثة : الذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة ، وهم أهل البدع والكفر ، وإليهم الإشارة بقوله : ( ولا الضالين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : استكمال النفس الإنسانية بالمعارف والعلوم على قسمين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يحاول تحصيلها بالفكر والنظر والاستدلال .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن تصل إليه محصولات المتقدمين فتستكمل نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) إشارة إلى القسم الأول ، وقوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) إشارة إلى القسم الثاني ، ثم في هذا القسم طلب أن يكون اقتداؤه بأنوار عقول الطائفة المحقة الذين جمعوا بين العقائد الصحيحة والأعمال الصائبة ، وتبرأ من أن يكون اقتداؤه بطائفة الذين أخلوا بالأعمال الصحيحة ، وهم المغضوب عليهم ، أو بطائفة الذين أخلوا بالعقائد الصحيحة ، وهم الضالون ، وهذا آخر السورة ، وعند الوقوف على ما لخصناه يظهر أن هذه السورة جامعة لجميع المقامات المعتبرة في معرفة الربوبية ومعرفة العبودية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية