الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 217 ] الفصل الرابع

                                                                                                                                                                                                                                            قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى ذكرني عبدي ، وإذا قال : الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم يقول الله عظمني عبدي ، وإذا قال مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدي ، وفي رواية أخرى فوض إلي عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد يقول الله عبدني عبدي ، وإذا قال : وإياك نستعين يقول الله تعالى توكل علي عبدي ، وفي رواية أخرى فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله تعالى هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .

                                                                                                                                                                                                                                            فوائد هذا الحديث :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : قوله تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " يدل على أن مدار الشرائع على رعاية مصالح الخلق ، كما قال : ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] وذلك لأن أهم المهمات للعبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ، ثم بمعرفة العبودية ؛ لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد ، كما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] وقال : ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) [ الإنسان : 2 ] وقال : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنزل الله هذه السورة على محمد عليه السلام ، وجعل النصف الأول منها في معرفة الربوبية ، والنصف الثاني منها في معرفة العبودية ، حتى تكون هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه في الوفاء بذلك العهد .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : الله تعالى سمى الفاتحة باسم الصلاة ، وهذا يدل على أحكام :

                                                                                                                                                                                                                                            الحكم الأول : أن عند عدم قراءة الفاتحة وجب أن لا تحصل الصلاة ، وذلك يدل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة ، كما يقوله أصحابنا ويتأكد هذا الدليل بدلائل أخرى :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام واظب على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الخلفاء الراشدين واظبوا على قراءتها فوجب أن يجب علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن جميع المسلمين شرقا وغربا لا يصلون إلا بقراءة الفاتحة فوجب أن تكون متابعتهم واجبة في ذلك لقوله تعالى : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم ) [ النساء : 115 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " .

                                                                                                                                                                                                                                            خامسها : قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وقوله " فاقرءوا " أمر وظاهره الوجوب ، فكانت قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ، وقراءة غير الفاتحة ليست واجبة ، فوجب أن تكون قراءة الفاتحة واجبة عملا بظاهر الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أن قراءة الفاتحة أحوط فوجب المصير إليها ؛ لقوله عليه السلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن الرسول عليه السلام واظب على قراءتها فوجب أن يكون العدول عنه محرما لقوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) [ النور : 63 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أنه لا نزاع بين المسلمين أن قراءة الفاتحة في الصلاة أفضل وأكمل من قراءة غيرها ، إذا ثبت هذا فنقول : التكليف كان متوجها على العبد بإقامة الصلاة ، والأصل في الثابت البقاء ، حكمنا بالخروج عن هذه العهدة عند الإيتاء بالصلاة مؤداة بقراءة الفاتحة ، [ ص: 218 ] وقد دللنا على أن هذه الصلاة أفضل من الصلاة المؤداة بقراءة غير الفاتحة ولا يلزم من الخروج عن العهدة بالعمل الكامل الخروج عن العهدة بالعمل الناقص ، فعند إقامة الصلاة المشتملة على قراءة غير الفاتحة وجب البقاء في العهدة .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : أن المقصود من الصلاة حصول ذكر القلب ؛ لقوله تعالى : ( وأقم الصلاة لذكري ) [ طه : 14 ] وهذه السورة مع كونها مختصرة ، جامعة لمقامات الربوبية والعبودية ، والمقصود من جميع التكاليف حصول هذه المعارف ، ولهذا السبب جعل الله هذه السورة معادلة لكل القرآن في قوله : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) [ الحجر : 87 ] فوجب أن لا يقوم غيرها مقامها البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : أن هذا الخبر الذي رويناه يدل على أن عند فقدان الفاتحة لا تحصل الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية