الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل السابع

                                                                                                                                                                                                                                            في لطائف قوله " الحمد لله " ، وفوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة

                                                                                                                                                                                                                                            أما لطائف قوله " الحمد لله " فأربع نكت :

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الأولى : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال : يا رب ، ما جزاء من حمدك فقال : الحمد لله ؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر [ ص: 228 ] وخاتمته ، قال أهل التحقيق : لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه ، ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) [ يونس : 10 ] . وروي عن علي عليه السلام أنه قال : خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه ، فجعل العلم نفسه ، والفهم روحه ، والزهد رأسه ، والحياء عينه ، والحكمة لسانه ، والخير سمعه ، والرأفة قلبه ، والرحمة همه ، والصبر بطنه ، ثم قيل له تكلم ، فقال : الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل ، الذي ذل كل شيء لعزته ، فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز علي منك . وأيضا نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال : الحمد لله فكان أول كلامه ذلك ، إذا عرفت هذا فنقول : أول مراتب المخلوقات هو العقل ، وآخر مراتبها آدم ، وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله : الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله : الحمد ، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة ، فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال : ( الحمد لله رب العالمين ) وأيضا ثبت أن أول كلمات الله قوله : الحمد لله ، وآخر أنبياء الله محمد رسول الله ، وبين الأول والآخر مناسبة ، فلا جرم جعل قوله ( الحمد لله ) أول آية من كتاب محمد رسوله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان : أحمد ومحمد ، وعند هذا قال عليه السلام : " أنا في السماء أحمد ، وفي الأرض محمد " فأهل السماء في تحميد الله ، ورسول الله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى : ( فأولئك كان سعيهم مشكورا ) [ الإسراء : 19 ] ورسول الله محمدهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والنكتة الثانية : أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام فلهذا السبب قال : سبقت رحمتي غضبي .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الثالثة : أن الرسول اسمه أحمد ، ومعناه أنه أحمد الحامدين أي : أكثرهم حمدا ، فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة ، وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين . فلهذا السبب قال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الرابعة : أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة ، وهما الرحمن الرحيم ، وهما يفيدان المبالغة ، والرسول له أيضا اسمان مشتقان من الرحمة ، وهما محمد وأحمد ، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة ، فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم . وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول : الحمد ، والحامد ، والمحمود ، فهذه خمسة للرسول دالة على الرحمة ، إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قال : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) [ الحجر : 49 ] فقوله نبئ إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مذكور قبل العباد ، والياء في قوله عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله أني عائد إليه ، وقوله أنا عائد إليه ، وقوله الغفور الرحيم صفتان لله ، فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) [ الأعراف : 156 ] [ ص: 229 ] فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء :

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الأولى : أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء ، منها خمسة من صفة الربوبية ، وهي : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك ؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي : العبودية ، والاستعانة ، وطلب الهداية ، وطلب الاستقامة ، وطلب النعمة كما قال : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة ، فكأنه قيل : إياك نعبد لأنك أنت الله ، وإياك نستعين لأنك أنت الرب ، اهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن ، وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم ، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الثانية : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدنه ، ونفسه الشيطانية ، ونفسه الشهوانية ، ونفسه الغضبية ، وجوهره الملكي العقلي ، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة ، فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] وتجلى للنفس الشيطانية بالبر والإحسان - وهو اسم الرب - فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان ، وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال : ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم ، وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال ( أحل لكم الطيبات ) [ المائدة : 4 ] فلان وترك العصيان ، وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله : ( مالك يوم الدين ) فإن البدن غليظ كثيف ، فلا بد من قهر شديد ، وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة ، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران ، وانفتحت أبواب الجنان ، ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت : ( إياك نعبد ) ، وأطاعت النفوس الشهوانية فقالت : ( وإياك نستعين ) على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات ، وأطاعت النفوس الغضبية فقالت : ( اهدنا ) وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا ، وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت : ( اهدنا الصراط المستقيم ) وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الثالثة : قال عليه السلام بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي الرب ؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن ؛ لأن الرحمن مبالغة في الرحمة ، وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء ، ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم ؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه ، وأيضا إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها ، ووجوب الحج من تجلي اسم مالك يوم الدين ؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد ، وذلك يشبه سفر يوم القيامة ، وأيضا الحاج يصير حافيا حاسرا عاريا وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة كثيرة جدا .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الرابعة : أنواع القبلة خمسة : بيت المقدس ، والكعبة ، والبيت المعمور ، والعرش وحضرة جلال [ ص: 230 ] الله . فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة الخامسة : الحواس خمس : أدب البصر بقوله : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] والسمع بقوله : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) [ الزمر : 18 ] والذوق بقوله : ( ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ) [ المؤمنون : 51 ] والشم بقوله : ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) [ يوسف : 94 ] واللمس بقوله : ( والذين هم لفروجهم حافظون ) [ المؤمنون : 5 ] فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة السادسة : اعلم أن الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار ، والشطر الثاني منها مشتمل على الصفات الخمسة للعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار ، وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته : فالأول هو النزول ، والثاني هو الصعود ، والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله : ( مالك يوم الدين ) وبين قوله : ( إياك نعبد ) وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان : إما دفع الضرر ، أو جلب النفع ، وإما في طلب الآخرة ، وهو أيضا قسمان : دفع الضرر وهو الهرب من النار ، وطلب الخير وهو طلب الجنة ، فالمجموع أربعة ، والقسم الخامس - وهو الأشرف - طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئا سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            النكتة السابعة : يمكن أيضا تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور - وهو قوله : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - أما قولنا : سبحان الله ، فهو فاتحة سورة واحدة وهي : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [ الإسراء : 1 ] وأما قولنا : الحمد لله ، فهو فاتحة خمس سور ، وأما قولنا : لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله : ( الم الله لا إله إلا هو ) [ آل عمران : 1 ] وأما قولنا : الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافا إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال : ( ولذكر الله أكبر ) [ العنكبوت : 45 ] وقال : ( ورضوان من الله أكبر ) [ التوبة : 72 ] وأما قولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فهو غير مذكور في القرآن صريحا لأنه من كنوز الجنة والكنز يكون مخفيا ولا يكون ظاهرا فالأسماء الخمسة المذكورة في سورة الفاتحة مباد لهذه الأذكار الخمسة ، فقولنا " الله " مبدأ لقولنا سبحان الله ، وقولنا " رب " مبدأ لقولنا الحمد لله ، وقولنا " الرحمن " مبدأ لقولنا لا إله إلا الله ، فإن قولنا لا إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة ، وذلك هو الرحمن ؛ وقولنا " الرحيم " مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء ، وقولنا مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ؛ لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئا على خلاف إرادته ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية