الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وجنات من أعناب والزيتون والرمان ) وفيه أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : قرأ عاصم : " جنات " بضم التاء ، وهي قراءة علي - رضي الله عنه - ، والباقون " جنات " بكسر التاء . أما القراءة الأولى فلها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يراد ، وثم جنات من أعناب أي مع النخل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يعطف على " قنوان " على معنى : وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب ، وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله : ( نبات كل شيء ) والتقدير : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : ( والزيتون والرمان ) قال صاحب " الكشاف " : والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص ، كقوله تعالى : ( والمقيمين الصلاة ) [ النساء : 162 ] لفضل هذين الصنفين .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثاني : قال الفراء : قوله : ( والزيتون والرمان ) يريد شجر الزيتون ، وشجر الرمان كما قال : ( واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ] يريد أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار ؛ النخل والعنب والزيتون والرمان ، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء ، وثمار الأشجار فواكه ، والغذاء مقدم على الفاكهة ، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه ؛ لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة ، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات ، ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام : أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من بقية طينة آدم وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه ، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعا به إلى آخر الحال ، فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم ، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم بعده يظهر الحصرم ، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى ، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء ، وقد يتخذ الطبيخ منه ، فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة ، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ، ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر ، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات ، وهي الزبيب والدبس والخمر والخل ، ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلا في المجلدات ، والخمر وإن كان الشرع قد حرمها ، ولكنه تعالى قال في صفتها : ( ومنافع للناس ) [ البقرة : 219 ] ثم قال : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ البقرة : 219 ] فأحسن ما في العنب عجمه ، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة ، فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه ، وأما الزيتون فهو أيضا [ ص: 90 ] كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل أيضا عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال ، وأما الرمان فحاله عجيب جدا ، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام : قشره وشحمه وعجمه وماؤه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأقسام الثلاثة الأول وهي : القشر والشحم والعجم ، فكلها باردة يابسة ، أرضية كثيفة قابضة ، عفصة قوية في هذه الصفات ، وأما ماء الرمان ، فبالضد من هذه الصفات ، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال ، وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف ، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية ، ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفا باللطافة والاعتدال ، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين ، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات ، واكتفى بذكرها تنبيها على البواقي ، ولما ذكرها قال تعالى : ( مشتبها وغير متشابه ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : في تفسير ( مشتبها ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل ، مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة ، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل ، مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ، ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفا في الطعم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قال قتادة : أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه ، أما ثمارها فتكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أقول : إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها ، بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة . وعلى هذا التقدير : فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثاني : يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك استويا وتساويا ، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيرا ، وقرئ : " متشابها وغير متشابه " .

                                                                                                                                                                                                                                            والبحث الثالث : إنما قال : " مشتبها " ولم يقل : " مشتبهين " إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير : والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان ؛ كذلك كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                            رماني بأمر كنت منه ووالدي بريا ومن أجل الطوى رماني

                                                                                                                                                                                                                                            .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية