الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أقول : إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكا لله تعالى ، ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات ، أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود ، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون : الملائكة بنات الله ، وقوله : ( بغير علم ) كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته ، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون ، فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه ، قائما بذاته ، لا تعلق له في وجوده بالآخر ، ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة ؛ لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة ، وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ، ومن كان كذلك فيكون عبدا له ولا ولدا له ، فثبت أن من عرف أن الإله ما هو ، امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه ، وهذا إنما يعقل في حق من يفنى ، أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن الولد مشعر بكونه متولدا عن جزء من أجزاء الوالد ، وذلك إنما يعقل في حق من [ ص: 96 ] يكون مركبا ، ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه ، وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال ، فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله : ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) إشارة إلى هذه الدقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قرأ نافع " وخرقوا " مشددة الراء . والباقون " خرقوا " خفيفة الراء . قال الواحدي : الاختيار التخفيف ؛ لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : قال الفراء : معنى " خرقوا " افتعلوا وافتروا ، قال : وخرقوا واخترقوا ، وخلقوا واختلقوا ، وافتروا واحد . وقال الليث : يقال : تخرق الكذب وتخلقه ، وحكى صاحب " الكشاف " : أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال : كلمة عربية كانت تقولها ، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها ، والله أعلم ، ثم قال : ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه ، أي شقوا له بنين وبنات .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى ختم الآية فقال : ( سبحانه وتعالى عما يصفون ) ؛ فقوله : ( سبحانه ) تنزيه لله عن كل ما لا يليق به ، وأما قوله : ( وتعالى ) فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان ؛ لأن المقصود هاهنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة ، والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى ، فثبت أن المراد هاهنا التعالي عن كل اعتقاد باطل ، وقول فاسد .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله : " سبحانه " وبين قوله : " وتعالى " فرق .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : بل يبقى بينهما فرق ظاهر ، فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به ، والمراد بقوله : ( وتعالى ) كونه في ذاته متعاليا متقدسا عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه ، فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين ، والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية