الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق ، وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم ، والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء . أما قوله : ( إن يشأ يذهبكم ) فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضا ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف وأما قوله : ( ويستخلف من بعدكم ) يعني من بعد إذهابكم ؛ لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت . وأما قوله : ( ما يشاء ) فالمراد منه خلق ثالث ورابع ، واختلفوا فقال بعضهم : خلقا آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع ، وقال أبو مسلم : بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقا ثالثا مخالفا للجن والإنس قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأن القوم [ ص: 166 ] يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة ، فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي الثواب ، فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم ، ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير ، فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة ، وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة ، فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها . وقرأ القراء كلهم " ذرية " بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال . قال الكسائي : هما لغتان .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن ما توعدون لآت ) قال الحسن : أي من مجيء الساعة؛ لأنهم كانوا ينكرون القيامة ، وأقول فيه احتمال آخر : وهو أن الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب ، وأما الوعيد فهو مخصوص بالإخبار عن العقاب فقوله : ( إن ما توعدون لآت ) يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة ، فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية ، وهو أنه قال : ( وما أنتم بمعجزين ) يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا ، فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيا ، ولما ذكر الوعيد ، ما زاد على قوله : ( وما أنتم بمعجزين ) وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية