الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : إن هذه الآية ظاهرها استفهام ، إلا أن المراد منه تقرير الإنكار ، والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار ، وفي الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : إن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وكثير من المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : إنه يتناول جميع أنواع الزينة ، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين ، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه ، ويدخل تحتها المركوب ، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي ؛ لأن كل ذلك زينة ، ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم ، ويدخل تحت الطيبات من الرزق كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل أيضا تحته التمتع بالنساء وبالطيب . وروي عن عثمان بن مظعون : أنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال : غلبني حديث النفس ، عزمت على أن أختصي ، فقال : مهلا يا عثمان ، إن خصاء أمتي الصيام ، قال : فإن نفسي تحدثني بالترهب . قال : إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة ، فقال : تحدثني نفسي بالسياحة ، فقال : سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ، فقال : إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك ، فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك . فقال : إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة ، فقال : إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله ، قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها . قال : إن المسلم [ ص: 53 ] إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه ، فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة ، وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين ، وفرح يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم ، قال : مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ، ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله . قال : فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب . قال : مهلا فإن جبريل أمرني بالطيب غبا ، وقال : لا تتركه يوم الجمعة ، ثم قال : يا عثمان ، لا ترغب عن سنتي ، فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه ، إلا ما خصه الدليل ، فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله : ( قل من حرم زينة الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به ، وجب أن يكون حلالا ، وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالا ، فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع ، وهذا أصل معتبر في كل الشريعة ؛ لأن كل واقعة تقع ، فإما أن يكون النفع فيها خالصا ، أو راجحا أو الضرر يكون خالصا أو راجحا ، أو يتساوى الضرر والنفع ، أو يرتفعا . أما القسمان الأخيران ، وهو أن يتعادل الضرر والنفع ، أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين ، وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النفع خالصا ، وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية ، وإن كان النفع راجحا والضرر مرجوحا يقابل المثل بالمثل ، ويبقى القدر الزائد نفعا خالصا ، فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصا ، وإن كان الضرر خالصا ، كان تركه خالص النفع ، فيلتحق بالقسم المتقدم ، وإن كان الضرر راجحا بقي القدر الزائد ضررا خالصا ، فكان تركه نفعا خالصا ، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة ، ثم إن وجدنا نصا خالصا في الواقعة ، قضينا في النفع بالحل ، وفي الضرر بالحرمة ، وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلا تحت النص ثم قال نفاة القياس : فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس ، لكان حكم ذلك القياس : إما أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام ، وحينئذ يكون ضائعا ؛ لأن هذا النص مستقل به ، وإن كان مخالفا كان ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النص ، فيكون مردودا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس . قالوا : وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافيا ببيان كل أحكام الشريعة ، ولا حاجة معه إلى طريق آخر ، فهذا تقرير قول من يقول : القرآن واف ببيان جميع الوقائع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية