الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 91 ] وأما القسم الثاني : وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه ، فهذا أيضا محال ؛ لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماسا له ، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يقال إنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية ، فهذا أظهر فسادا من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مباينا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ، ومحصورا بين هذين الحاصرين ، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعدا غير متناه .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد ، فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين ؛ أحدهما الأزل ، والثاني أول وجود العالم ، ولم يلزم من كون هذا التقدم محصورا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية ، فكذا ههنا ؟ وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن هذا هو محض المغالطة ؛ لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم ، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودا بين حدين ومحصورا بين حاصرين ، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه . بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نقول : أنه تعالى مختص بجهة معينة ، وحاصل في حيز معين ، وإما أن لا نقول ذلك ، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدودا بين ذينك الحدين ، والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه ؛ لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف ، وكونه محصورا بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف ، والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال . ونظيره ما ذكرناه : أنا متى عينا قبل العالم وقتا معينا كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعدا متناهيا لا محالة . وأما إن قلنا بالقسم الثاني : وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة ، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة ؛ لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ، ونظير هذا قول من يقول : الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث ، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة عشرة : أنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان : إما السطح الباطن من الجسم الحاوي ، وإما البعد المجرد والفضاء الممتد ، وليس يعقل في المكان قسم ثالث .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المكان هو الأول ، فنقول : ثبت أن أجسام العالم متناهية ، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة ، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم . وإن كان المكان هو الثاني ، فنقول : طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية ، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز ، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك كان محدثا [ ص: 92 ] بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول ، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين ، فيلزم كون الإله محدثا ، وهو محال . فثبت أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة عشرة : وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جدا ، وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت ، كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص ، وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف ، كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل ، وتقريره أن نقول : وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية ، فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط ، فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدا . وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض ، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة ، فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعا من التأثيرات . وأما الهواء ، فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء ، فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء ، فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس ، وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق . وأما النار ، فإنها أقل كثافة من الهواء ، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج ، وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان . وأما الأفلاك ، فإنها ألطف من الأجرام العنصرية ، فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات .

                                                                                                                                                                                                                                            فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيرا ، وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا كان أقل حجمية وجرمية وجسمية ، وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك البتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة ، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزها عن الجسمية والموضع والحيز . وبالله التوفيق . فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزها عن الاختصاص بالحيز والجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية