الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما الدلائل السمعية فكثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : قوله تعالى : ( قل هو الله أحد ) [الإخلاص : 1] فوصفه بكونه أحدا ، والأحد مبالغة في كونه واحدا . والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء كثيرة جدا فوق أجزاء العرش ، وذلك ينافي كونه أحدا . ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون : إنه تعالى ذات واحدة ، ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة . قالوا : فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه . فقلت : حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة ، والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم الضرورية . وأيضا فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال : إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز ، فيظن أنها أشياء كثيرة ، ومعلوم أن من جوزه ، فقد التزم منكرا من القول عظيما .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي ، وذلك يوجب التغاير ، وأيضا فنرى بعضها متحركا ، وبعضها ساكنا ، والمتحرك غير الساكن ، فوجب القول بالتغاير ، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله ، فظهر الفرق . فنقول : أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه [ ص: 93 ] يفنى ذلك الجزء الآخر ، وذلك يوجب التغاير . فنقول : لا نسلم أنه فنى شيء من الأجزاء بل نقول : لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ؟ ثم إنه حصل ههنا وهناك ، وأيضا حصل موصوفا بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم ، فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك ، فأما أن يقال إنه فنى في نفسه ، فهذا غير مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : نرى بعض الأجسام متحركا وبعضها ساكنا ، وذلك يوجب التغاير ؛ لأن الحركة والسكون لا يجتمعان . فنقول : إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين ، فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا وأن المتحرك ليس هنا ، قضينا أن المتحرك غير الساكن . وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة ، لم يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معا ؛ لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا ، وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر ، إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معا لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة ، فثبت أنه لو جاز أن يقال أنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ، ثم مع ذلك يمتلئ العرش منه ، لم يبعد أيضا أن يقال : العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ ، ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز ، وحصل منه كل العرش ، ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى قال : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] فلو كان إله العالم في العرش ، لكان حامل العرش حاملا للإله ، فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا ، ومحفوظا حافظا ، وذلك لا يقوله عاقل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه تعالى قال : ( والله الغني ) [محمد : 38] حكم بكونه غنيا على الإطلاق ، وذلك يوجب كونه تعالى غنيا عن المكان والجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ، ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات ، فإنه لما قال : ( وما رب العالمين ) [الشعراء : 23] ففي المرة الأولى قال : ( رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ) [الشعراء : 24] ، وفي الثانية قال : ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) [الشعراء : 26] ، وفي المرة الثالثة قال : ( رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ) [الشعراء : 28] وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية ، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال : ( ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى ) [غافر : 36 ، 37] فطلب الإله في السماء ، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية ، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وسائر جميع الأنبياء ، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أنه تعالى قال في هذه الآية : ( ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) وكلمة " ثم " للتراخي ، وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السماوات والأرض ، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار ، لزم أن يقال : أنه ما كان مستقرا على العرش ، بل كان معوجا مضطربا ، ثم استوى عليه بعد ذلك ، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة ، والسكون أخرى ، وذلك لا يقوله عاقل .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة ، فلو كان إله العالم جسما ، لكان أبدا غاربا آفلا ، وكان منتقلا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار ، فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعنا في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلا في إله العالم ، فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أنه تعالى ذكر قبل قوله : ( ثم استوى على العرش ) شيئا وبعده شيئا آخر . أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) [ ص: 94 ] وقد بينا أن خلق السماوات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة . وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : قوله : ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله ، وعلى قدرته وحكمته .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله : ( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) وهو أيضا من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( ألا له الخلق والأمر ) وهو أيضا إشارة إلى كمال قدرته وحكمته .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم ، وآخرها يدل أيضا على هذا المطلوب ، وإذا كان الأمر كذلك فقوله : ( ثم استوى على العرش ) وجب أن يكون أيضا دليلا على كمال القدرة والعلم ؛ لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقرا على العرش كان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده ، فإن كونه تعالى مستقرا على العرش لا يمكن جعله دليلا على كماله في القدرة والحكمة ، وليس أيضا من صفات المدح والثناء ؛ لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش ، فثبت أن كونه جالسا على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء ، فلو كان المراد من قوله : ( ثم استوى على العرش ) كونه جالسا على العرش لكان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده ، وهذا يوجب نهاية الركاكة ، فثبت أن المراد منه ليس ذلك ، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا ، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال : ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) [الأنفال : 11] وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما له ارتفاع وعلو وسمو كان سماء ، فلو كان إله العالم موجودا فوق العرش ، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش . فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء ، والله تعالى حكم بكونه خالقا لكل السماوات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقا لنفسه وذلك محال .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( الذي خلق السماوات والأرض ) آية محكمة دالة على أن قوله : ( ثم استوى على العرش ) من المتشابهات التي يجب تأويلها ، وهذه نكتة لطيفة ، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام : ( وهو الله في السماوات ) [الأنعام : 3] ثم قال بعده بقليل : ( قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ) [الأنعام : 12] فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السماوات فهو ملك لله ، فلو كان الله في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه ، وذلك محال فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله : ( ثم استوى على العرش ) على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز ، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل ، بل نفوض علمها إلى الله ، وهو الذي قررناه في تفسير قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [آل عمران : 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن نخوض في تأويله على التفصيل ، وفيه قولان ملخصان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكره القفال - رحمة الله عليه - فقال : ( العرش ) في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن [ ص: 95 ] نفس الملك ، يقال : ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد . وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا : استوى على عرشه ، واستقر على سرير ملكه ، هذا ما قاله القفال . وأقول : إن الذي قاله حق وصدق وصواب ، ونظيره قولهم للرجل الطويل : فلان طويل النجاد ، وللرجل الذي يكثر الضيافة : كثير الرماد ، وللرجل الشيخ : فلان اشتعل رأسه شيبا ، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها ، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش ، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال القفال - رحمه الله تعالى - : والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله ، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة ، وإذا قال : قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات ، وتكوين الممكنات ، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات ، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية ، وهكذا القول في كل صفاته ، وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب لهم موضعا يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه ، وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه ، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع ، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش ، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد ، فكان قوله : ( ثم استوى على العرش ) أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال . ثم قال القفال : والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ) [يونس : 3] فقوله : ( يدبر الأمر ) جرى مجرى التفسير لقوله : ( استوى على العرش ) وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها : ( ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر ) وهذا يدل على أن قوله : ( ثم استوى على العرش ) إشارة إلى ما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا حملتم قوله : ( ثم استوى على العرش ) على أن المراد : استوى على الملك ، وجب أن يقال : الله لم يكن مستويا قبل خلق السماوات والأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادرا على تخليقها وتكوينها ، وما كان مكونا ولا موجدا لها بأعيانها بالفعل ؛ لأن إحياء زيد ، وإماتة عمرو ، وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال ، فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال ، صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السماوات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السماوات والأرض ، وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 96 ] والوجه الثاني : في الجواب أن يقال : استوى بمعنى استولى ، وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى علا واستعلى على الملك ، فيكون المعنى : أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت ، واعلم أنه تعالى ذكر قوله : ( استوى على العرش ) في سور سبع ؛ إحداها ههنا ، وثانيها في يونس ، وثالثها في الرعد ، ورابعها في طه ، وخامسها في الفرقان ، وسادسها في السجدة ، وسابعها في الحديد ، وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة ، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغا كثيرا وافيا بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية