الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال الليث : التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار ، قال الأزهري : وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجميا فتعربه العرب فيصير عربيا ، والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ، ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والإستبرق ، فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء .

                                                                                                                                                                                                                                            فالأول : قوله : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) قال الأخفش : تقول : الاثنان هما زوجان ، قال تعالى : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين ) [الذاريات : 49] فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج ، وتقول للمرأة : هي زوج وهو زوجها ، قال تعالى : ( وخلق منها زوجها ) [النساء : 1] يعني المرأة ، وقال : ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) [النجم : 45] فثبت أن الواحد قد يقال له : زوج ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى ، والتقدير كل شيئين هما كذلك ، فاحمل منهما في السفينة اثنين ، واحد ذكر والآخر أنثى ، ولذلك قرأ حفص : ( من كل ) بالتنوين ، وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين ، الذكر زوج والأنثى زوج ، لا يقال عليه : إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين ، فما الفائدة في قوله : ( زوجين اثنين ) ؛ لأنا نقول : هذا على مثال قوله : ( لا تتخذوا إلهين اثنين ) [النحل : 51] ، وقوله : ( نفخة واحدة ) [الحاقة : 13] ، وأما على القراءة المشهورة ، فهذا السؤال غير وارد ، واختلفوا في أنه هل دخل في قوله : ( زوجين اثنين ) غير الحيوان أم لا ؟ فنقول : أما الحيوان فداخل ؛ لأن قوله : ( من كل زوجين اثنين ) يدخل فيه كل الحيوانات ، وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه ، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه ، وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال : لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى ؛ وذلك أن نوحا عليه السلام قال : يا رب ، فمن أين أطعم الأسد إذا حملته ؟ قال تعالى : فسوف أشغله عن الطعام . فسلط الله تعالى عليه الحمى . وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها ؛ فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : من الأشياء التي أمر الله نوحا عليه السلام بحملها في السفينة :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 182 ] قوله تعالى : ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) قالوا : كانوا سبعة : نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له ، وهم : سام ، وحام ، ويافث ، ولكل واحد منهم زوجة ، وقيل أيضا : كانوا ثمانية ؛ هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( إلا من سبق عليه القول ) ، فالمراد ابنه وامرأته ، وكانا كافرين ، حكم الله تعالى عليهم بالهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : الإنسان أشرف من جميع الحيوانات ، فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الإنسان عاقل ، وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه ، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب ، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات ، فلهذا السبب وقع الابتداء به .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله : ( إلا من سبق عليه القول ) في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب ، قالوا : لأن قوله : ( سبق عليه القول ) مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله ، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : " السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه " .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث من تلك الأشياء قوله : ( ومن آمن ) قالوا : كانوا ثمانين . قال مقاتل : في ناحية الموصل قرية يقال لها : قرية الثمانين ؛ سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها ، فسميت بهذا الاسم ، وذكروا ما هو أزيد منه وما هو أنقص منه ، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة ، وهو قوله تعالى : ( وما آمن معه إلا قليل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل : قليلون كما في قوله : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) [الشعراء : 54] .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : كلا اللفظين جائز ، والتقدير ههنا : وما آمن معه إلا نفر قليل ، فأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد ؛ لأنه من الجن ، وهو جسم ناري أو هوائي ، وكيف يؤثر الغرق فيه ، وأيضا كتاب الله تعالى لم يدل عليه ، وخبر صحيح ما ورد فيه ، فالأولى ترك الخوض فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية