الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته ، والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده ، ولما لم يكن العلم بوجوده ضروريا بل استدلاليا ، لا جرم أورد ههنا ما يدل على وجوده .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أننا بينا في " الكتب العقلية " أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان وإما الحدوث وإما مجموعهما ، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض . فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الاستدلال بإمكان الذوات ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( والله الغني وأنتم الفقراء ) [ محمد : 38 ] ، وبقوله حكاية عن إبراهيم : ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ الشعراء : 77 ] ، وبقوله : ( وأن إلى ربك المنتهى ) [ النجم : 42 ] ، وقوله : ( قل الله ثم ذرهم ) [ الأنعام : 91 ] ، ( ففروا إلى الله ) [ الذاريات : 50 ] ، ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله : ( خلق السماوات والأرض ) وبقوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) على ما سيأتي تقريره .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الاستدلال بحدوث الأجسام ، وإليه الإشارة بقول إبراهيم - عليه السلام - : ( لا أحب الآفلين ) [ الأنعام : 76 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الاستدلال بحدوث الأعراض ، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق ، وذلك محصور في أمرين [ ص: 90 ] دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، والكتب الإلهية في الأكثر مشتملة على هذين البابين ، والله تعالى جمع ههنا بين هذين الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما دلائل الأنفس ، فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه ما كان موجودا قبل ذلك وأنه صار الآن موجودا وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بد له من موجد ، وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس ؛ لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة ، فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص ، إلا أن لقائل أن يقول ههنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم ؟ ولما كان هذا السؤال محتملا ذكر الله تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) وهو المراد من دلائل الآفاق ، ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول ، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية ، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها . وإلا وجب اشتراك الكل في تلك الصفات ، فلا بد وأن يكون لأمر منفصل ، وذلك الأمر إن كان جسما عاد البحث في أنه لم اختص بتلك المؤثرية من بين تلك الأجسام ، وإن لم يكن جسما فإما أن يكون موجبا أو مختارا . والأول باطل ، وإلا لم يكن اختصاص بعض الأجسام ببعض الصفات أولى من العكس فلا بد وأن يكون قادرا ، فثبت بهذه الدلالة افتقار جميع الأجسام إلى مؤثر قادر ليس بجسم ولا بجسماني ، وعند هذا ظهر أن الاستدلال بحدوث الأعراض على وجود الصانع لا يكفي إلا بعد الاستعانة بإمكان الأعراض والصفات .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى إنما خص هذا النوع من الأدلة بالإيراد في أول كتابه لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذا الطريق لما كان أقرب الطرق إلى أفهام الخلق وأشدها التصاقا بالعقول ، وكانت الأدلة المذكورة في القرآن يجب أن تكون أبعدها عن الدقة وأقربها إلى الأفهام لينتفع به كل أحد من الخواص والعوام ، لا جرم ذكر الله تعالى في أول كتابه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه ليس الغرض من الدلائل القرآنية المجادلة ، بل الغرض منها تحصيل العقائد الحقة في القلوب ، وهذا النوع من الدلائل أقوى من سائر الطرق في هذا الباب ؛ لأن هذا النوع من الدلائل كما يفيد العلم بوجود الخالق فهو يذكر بنعم الخالق علينا ، فإن الوجود والحياة من النعم العظيمة علينا ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة وترك المنازعة وحصول الانقياد ، فلهذا السبب كان ذكر هذا النوع من الأدلة أولى من سائر الأنواع .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن للسلف طرقا لطيفة في هذا الباب :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : يروى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر الصادق - رضي الله عنه - فقال جعفر : هل ركبت البحر ؟ قال : نعم . قال : هل رأيت أهواله ؟ قال : بلى ؛ هاجت يوما رياح هائلة فكسرت السفن وغرقت الملاحين ، فتعلقت أنا ببعض ألواحها ثم ذهب عني ذلك اللوح فإذا أنا مدفوع في تلاطم الأمواج حتى دفعت إلى الساحل ، فقال جعفر : قد كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ثم على اللوح حتى تنجيك ، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك هل أسلمت نفسك للهلاك أم كنت ترجو السلامة بعد ؟ قال : بل رجوت السلامة ، قال : ممن كنت ترجوها ؟ فسكت الرجل ، فقال جعفر : إن الصانع هو الذي كنت ترجوه في ذلك الوقت ، وهو [ ص: 91 ] الذي أنجاك من الغرق ، فأسلم الرجل على يده .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : جاء في كتاب " ديانات العرب " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمران بن حصين : " كم لك من إله ؟ " قال : عشرة ، قال : فمن لغمك وكربك ودفع الأمر العظيم إذا نزل بك من جملتهم ؟ قال : الله ، قال - عليه السلام - : " ما لك من إله إلا الله " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : كان أبو حنيفة - رحمه الله - سيفا على الدهرية ، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه ، فبينما هو يوما في مسجده قاعد إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم ، فقالوا له : هات ، فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم : إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة ، وهي من بينها تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها ولا متعهد يدفعها ، هل يجوز ذلك في العقل ؟ قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل ؟ فقال أبو حنيفة : يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ ؟ فبكوا جميعا وقالوا : صدقت ، وأغمدوا سيوفهم وتابوا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : سألوا الشافعي - رضي الله عنه - ما الدليل على وجود الصانع ؟ فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم ، قال : فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، والنحل فيخرج منها العسل ، والشاة فيخرج منها البعر ، ويأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعل هذه الأشياء كذلك مع أن الطبع واحد ؟ فاستحسنوا منه ذلك وأسلموا على يده وكان عددهم سبعة عشر .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : سئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - مرة أخرى فتمسك بأن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى وبالعكس ، فدل على الصانع .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : تمسك أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - بقلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها ، ظاهرها كالفضة المذابة وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بد من الفاعل ، عنى بالقلعة البيضة وبالحيوان الفرخ .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : سأل هارون الرشيد مالكا عن ذلك فاستدل باختلاف الأصوات وتردد النغمات وتفاوت اللغات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : سئل أبو نواس عنه ، فقال :


                                                                                                                                                                                                                                            تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك     عيون من لجين شاخصات
                                                                                                                                                                                                                                            وأزهار كما الذهب السبيك     على قضب الزبرجد شاهدات
                                                                                                                                                                                                                                            بأن الله ليس له شريك



                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : سئل أعرابي عن الدليل فقال : البعرة تدل على البعير . والروث على الحمير ، وآثار الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير ؟

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 92 ] وعاشرها : قيل لطبيب : بم عرفت ربك ؟ قال : بإهليلج مجفف أطلق ، ولعاب ملين أمسك . وقال آخر : عرفته بنحلة ، بأحد طرفيها تعسل والآخر تلسع ، والعسل مقلوب اللسع .

                                                                                                                                                                                                                                            وحادي عشرها : حكم البديهة في قوله : ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) [ الزخرف : 87 ] ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) [ غافر : 84 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية