الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة ، قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمانه ويجادلانه ، ويريدان الفتك به ، فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد؟ ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير ، ومات في بيت سلولية.

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جدا ، وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب ، وإذا نزلت من السحاب ، فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر ، والحكماء بالغوا في وصف قوتها ، ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب ، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإنها أقوى نيران هذا العالم ، فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار.

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة ، قال : ( وهم يجادلون في الله ) والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله : ( يعلم ما تحمل كل أنثى ) [الرعد : 8] وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآية.

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وهم يجادلون في الله ) يعني : هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال : أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من [ ص: 23 ] حديد؟

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر.

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات.

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.

                                                                                                                                                                                                                                            وفي هذه الواو قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها للحال ، والمعنى : فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله ، وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة.

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك : ( وهم يجادلون في الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وهو شديد المحال ) وفي لفظ المحال أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            قال ابن قتيبة : الميم زائدة وهو من الحول ، ونحوه ميم مكان.

                                                                                                                                                                                                                                            وقال الأزهري : هذا غلط ، فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية ، نحو مهاد ومداس ومداد ، واختلفوا مما أخذ على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قيل من قولهم : محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك ، وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ، فكان المعنى : أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المحال عبارة عن الشدة ، ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وماحلت فلانا محالا ، أي قاومته أينا أشد ، قال أبو مسلم : ومحال فعال من المحل وهو الشدة ، ولفظ فعال يقع على المجازاة والمقابلة ، فكأن المعنى : أنه تعالى شديد المغالبة ، وللمفسرين هاهنا عبارات ، فقال مجاهد وقتادة : شديد القوة ، وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة ، وقال الحسن : شديد النقمة ، وقال ابن عباس : شديد الحول.

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال ابن عرفة : يقال ماحل عن أمره أي جادل ، فقوله : ( شديد المحال ) أي شديد الجدال.

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : روي عن بعضهم : ( شديد المحال ) أي شديد الحقد. قالوا : هذا لا يصح ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى ، إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى ، فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادئ الأعراض ، فالمراد بالحقد هاهنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية