الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ; لأن قوله : ( وهم لا يستكبرون ) يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، ونظيره قوله تعالى : ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) [ مريم : 64 ] وقوله : ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) [ الأنبياء : 27 ] وأما قوله : ( ويفعلون ما يؤمرون ) فهذا أيضا يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به ، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قالوا : هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لأن كل من نهي عن شيء فقد أمر بتركه ، وحينئذ يدخل في اللفظ ، وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب ، وثبت أن إبليس ما كان معصوما من الذنوب بل كان كافرا ، لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة : ( وهم لا يستكبرون ) ثم قال لإبليس : ( أأستكبرت أم كنت من العالين ) [ ص : 75 ] وقال أيضا له : ( فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ) [ الأعراف : 13 ] فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة ، وأيضا لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل ، فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب ، وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة ، والله أعلم . واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى وصفهم بالخوف ، ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب ، وإلا لم يحصل الخوف .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم ) [ الأنبياء : 29 ] وهم لهذا الخوف يتركون الذنب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال ، هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والدليل على صحته قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [ فاطر : 28 ] وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم ، كان الخوف منه أعظم ، وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قالت المشبهة : قوله تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ) هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 38 ] واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ) [ الأنعام : 18 ] والذي نزيده ههنا أن قوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ) معناه : يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم ، وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى سقط قولهم ، وأيضا يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله : ( وإنا فوقهم قاهرون ) [ الأعراف : 127 ] والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم ; لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللا بذلك الوصف .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة ; لأنها هي الموجبة للخوف ، أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف ، بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى ، وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين ، ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أنه تعالى قال : ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة ) وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب ، وكان الطرف الثاني أشرفها ، حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبها على الباقي ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن قوله تعالى : ( وهم لا يستكبرون ) يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله : ( ويفعلون ما يؤمرون ) يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية ، فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة ، وأما البشر فليسوا كذلك . ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( قتل الإنسان ما أكفره ) [ عبس : 17 ] وهذا الحكم عام في الإنسان ، وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة ، وأما الخبر فقوله عليه السلام : " ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا " ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة ، ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة ، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله عليه السلام : " الشيخ في قومه كالنبي في أمته " فضل الشيخ على الشاب ، وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول ، فالظاهر أن طاعته أكثر ، فكان أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال : إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة ، وهي طاعة الخالق القديم الرحيم ، والبشر إنما جاءوا بعدهم واستنوا سنتهم ، فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 39 ] الوجه الرابع : في دلالة الآية على هذا المعنى قوله : ( يخافون ربهم من فوقهم ) وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة ، فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى ، وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية