الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقا لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة ، يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم ، وبيانه من وجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذا يخرج منه ثقل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقا كليا لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة ، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثقل هناك ، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل ، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم ، لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ ، وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح ، فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى بحسب الحاجة وتقدير المنفعة ، مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب ، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة ، وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ، ولا تجذب الأجزاء اللطيفة البتة . ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ، ولفسد نظام هذا التركيب .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة ، حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دما ، ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن . وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده ، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له ، فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي ، بل ينصب على مجموع بدن المتغذي ، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصبابا موافقا للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوبا صغيرة ومسام ضيقة ، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة ، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدا ، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة ، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل ، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة ، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة ، فكل ما كان لطيفا خرج ، وكل ما كان كثيفا احتبس في الداخل ولم يخرج ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصا موافقا لبدن الصبي سائغا للشاربين .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص ، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص ، فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص ، وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع : أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم ، وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء ، ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم ، ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة ، فما فيه من الدهن [ ص: 55 ] يكون حارا رطبا ، وما فيه من المائية يكون باردا رطبا ، وما فيه من الجبنية يكون باردا يابسا ، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة ، فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ، مع أنه لا يناسب بعضها بعضا ولا يشاكل بعضها بعضا ، وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد ، فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته ، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( سائغا للشاربين ) فمعناه : جاريا في حلوقهم لذيذا هنيئا . يقال : ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه ، ومنه قوله : ( ولا يكاد يسيغه ) [ إبراهيم : 17 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية