الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام ، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى على القرآن فقال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 129 ] واعلم أن قوله تعالى : ( دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) [ الأنعام : 161 ] يدل على كون هذا الدين مستقيما ، وقوله في هذه الآية : ( للتي هي أقوم ) يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان . وأقول : قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك ، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا ، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال ، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا ، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا : الله أكبر أي : الله كبير ، وقولنا : الأشج والناقص أعدلا بني مروان ، أي : عادلا بني مروان ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قوله : ( للتي هي أقوم ) نعت لموصوف محذوف ، والتقدير : يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله : ( ادفع بالتي هي أحسن ) [ المؤمنون : 96 ] أي : بالخصلة التي هي أحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ) فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات :

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الأولى : أنه يهدي للتي هي أقوم ، وقد مر تفسيره .

                                                                                                                                                                                                                                            والصفة الثانية : أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير ، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح ، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر ، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم .

                                                                                                                                                                                                                                            والصفة الثالثة : قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) عطف على قوله : ( أن لهم أجرا كبيرا ) والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ، ونظيره قوله : بشرت زيدا أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : مذكور على سبيل التهكم ، أو يقال : إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ، فكيف يليق بهذا الموضع قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : عنه جوابان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن بعضهم قال : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) [ آل عمران : 24 ] فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية