الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : [ ص: 116 ] ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا )

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ، وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم ؛ لأنه افتخر بأصله ونسبه ، وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب ، فكيف أسجد وكيف أتواضع له ؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء وهم فقراء ؟ فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيها على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله : ( أفتتخذونه وذريته أولياء ) فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر ، وذكر القاضي وجها آخر ، فقال : إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب ، وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ، ويقول لهم : أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء ، لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماما لذلك الغرض ، ثم قال القاضي : وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ، ولهم فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى : ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) ( الصافات : 158 ) ( وجعلوا لله شركاء الجن ) ( الأنعام : 100 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الجن سموا جنا للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة ، كقولهم : كوفي وبصري ، وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا ، رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : قول من قال : كان من الملائكة فمسخ وغير ، وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية وهو قوله : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ) والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل ، فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة ، بقي أن يقال : إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة ، فكيف تناوله ذلك الأمر ؟ وأيضا لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم ؟ وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ، ثم قال تعالى : ( ففسق عن أمر ربه ) وفي ظاهره إشكال ؛ لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه ، فلهذا السبب ذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الفراء : ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته ، والعرب تقول : فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين ، وقال رؤبة :


                                                                                                                                                                                                                                            يهوين في نجد وغور غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا



                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 117 ] الثاني : حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال : لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق ، فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال : فسق عن أمر ربه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال قطرب : فسق عن أمر ربه رده ، كقوله : واسأل القرية ، واسأل العير .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية