الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في شرح كثرتهم : قال عليه الصلاة والسلام : " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها [ ص: 149 ] موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع " وروي أن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر ، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها ، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثالثة ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف ، طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السماوات والأرضون وما فيها وما بينها ، فإنها كلها تكون شيئا يسيرا ، وقدرا صغيرا ، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام ، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام ، وهم كلهم سامعون مطيعون لا يفترون مشتغلون بعبادته سبحانه وتعالى ، رطاب الألسن بذكره وتعظيمه ، يتسابقون في ذلك مذ خلقهم ، لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار ولا يسأمون ، لا يحصي أجناسهم ، ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى ، وهذا تحقيق حقيقة ملكوته جل جلاله على ما قال : ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [المدثر : 31] . وأقول : رأيت في بعض كتب التذكير أنه عليه الصلاة والسلام حين عرج به رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق بعضهم يمشي تجاه بعض ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهم إلى أين يذهبون ؟ فقال جبريل عليه السلام : لا أدري إلا أني أراهم مذ خلقت ولا أرى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ، ثم سألوا واحدا منهم ، وقيل له : مذ كم خلقت ؟ فقال : لا أدري غير أن الله تعالى يخلق كوكبا في كل أربعمائة ألف سنة فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني أربعمائة ألف مرة ، فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجل كماله .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أصنافهم وأوصافهم ، أما الأصناف :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدها : حملة العرش وهو قوله : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الحافون حول العرش على ما قال سبحانه : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ) [الزمر : 75] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أكابر الملائكة ، فمنهم جبريل وميكائيل صلوات الله عليهما لقوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين ) [البقرة : 98] ثم إنه سبحانه وتعالى وصف جبريل عليه السلام بأمور : الأول : أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء قال تعالى : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) [الشعراء : 193 ، 194] . الثاني : أنه تعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن ( قل من كان عدوا لجبريل ) [البقرة : 97] ولأن جبريل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الأرزاق والأغذية ، والعلم الذي هو الغذاء الروحاني أشرف من الغذاء الجسماني ، فوجب أن يكون جبريل عليه السلام أشرف من ميكائيل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى جعله ثاني نفسه ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) [التحريم : 4] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : سماه روح القدس ، قال في حق عيسى عليه السلام : ( إذ أيدتك بروح القدس ) [المائدة : 110] .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه مع ألف من الملائكة مسومين .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : أنه تعالى مدحه بصفات ست في قوله : ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) [التكوير : 19 - 21] فرسالته أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع الأنبياء ، فجميع [ ص: 150 ] الأنبياء والرسل أمته وكرمه على ربه أنه جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء ، وقوته أنه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلبها ، ، ومكانته عند الله أنه جعله ثاني نفسه في قوله تعالى : ( فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) [التحريم : 4] ، وكونه مطاعا أنه إمام الملائكة ومقتداهم ، وأما كونه أمينا فهو قوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) [الشعراء : 193 - 194] ، ومن جملة أكابر الملائكة إسرافيل وعزرائيل صلوات الله عليهما ، وقد ثبت وجودهما بالأخبار ، وثبت بالخبر أن عزرائيل هو ملك الموت على ما قال تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) [السجدة : 11] وأما قوله : ( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ) [الأنعام : 61] فذلك يدل على وجود ملائكة موكلين بقبض الأرواح ، ويجوز أن يكون ملك الموت رئيس جماعة وكلوا على قبض الأرواح قال تعالى : ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) [الأنفال : 50] . وأما إسرافيل عليه السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور على ما قال تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) [الزمر : 68] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : ملائكة الجنة قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [الرعد : 23 ، 24] .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ملائكة النار قال تعالى : ( عليها تسعة عشر ) [المدثر : 30] وقوله تعالى : ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ) [المدثر : 31] ورئيسهم مالك ، وهو قوله تعالى : ( ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ) [الزخرف : 77] وأسماء جملتهم الزبانية قال تعالى : ( فليدع ناديه سندع الزبانية ) [العلق : 17 ، 18] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : الموكلون ببني آدم لقوله تعالى : ( عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ق 17 ، 18] وقوله تعالى : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) [الرعد : 11] وقوله تعالى : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة ) [الأنعام : 61] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : كتبة الأعمال وهو قوله تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [الانفطار : 10 - 12] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : الموكلون بأحوال هذا العالم وهم المرادون بقوله تعالى : ( والصافات صفا ) [الصافات : 1] وبقوله : ( والذاريات ذروا ) [الذاريات : 1] إلى قوله : ( فالمقسمات أمرا ) [الذاريات : 4] وبقوله : ( والنازعات غرقا ) [النازعات : 1] . وعن ابن عباس قال : إن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الأشجار ، فإذا أصاب أحدكم حرجة بأرض فلاة فليناد : أعينوا عباد الله يرحمكم الله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية