الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المطلوب الثاني : قوله : ( ويسر لي أمري ) والمراد منه عند أهل السنة خلقها ، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة ، فإن قيل : كل ما أمكن من اللطف فقد فعله الله تعالى فأي فائدة في هذا السؤال ، قلنا يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال ففائدة السؤال حسن فعل تلك الألطاف .

                                                                                                                                                                                                                                            المطلوب الثالث : قوله : ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن النطق فضيلة عظيمة ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ( خلق الإنسان علمه البيان ) [ الرحمن : 3 ، 4 ] ولم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايرا له ، أما إذا ترك الحرف العاطف صار قوله : ( علمه البيان ) كالتفسير لقوله : ( خلق الإنسان ) كأنه إنما يكون خالقا للإنسان إذا علمه البيان ، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أن ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان ، قال زهير :


                                                                                                                                                                                                                                            لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم



                                                                                                                                                                                                                                            وقال علي : ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة . والمعنى أنا لو أزلنا الإدراك الذهني والنطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم ، وقالوا : المرء بأصغريه قلبه ولسانه . وقال صلى الله عليه وسلم : " المرء مخبوء تحت لسانه " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن في مناظرة آدم مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال : ( قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض ) [ البقرة : 33 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن الإنسان جوهر مركب من الروح والقالب ، وروحه من عالم الملائكة فهو يستفيد أبدا صور المغيبات من عالم الملائكة ثم بعد تلك الاستفادة يفيضها على عالم الأجسام ، وواسطته في تلك الاستفادة هي الفكر الذهني ، وواسطته في هذه الإفادة هي النطق اللساني فكما أن تلك الواسطة أعظم العبادات حتى قيل : " تفكر ساعة خير من عبادة سنة " فكذلك الواسطة في الإفادة يجب أن تكون أشرف الأعضاء فقوله : ( رب اشرح لي صدري ) إشارة إلى طلب النور الواقع في الروح ، وقوله : ( ويسر لي أمري ) إشارة إلى تحصيل ذلك وتسهيل ذلك التحصيل ، وعند ذلك يحصل الكمال في تلك الاستفادة الروحانية فلا يبقى بعد هذا إلا المقام البياني وهو إفاضة ذلك الكمال على الغير وذلك لا يكون إلا باللسان . فلهذا قال : ( واحلل عقدة من لساني ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : وهو أن العلم أفضل المخلوقات على ما ثبت ، والجود والإعطاء أفضل الطاعات ، وليس في الأعضاء أفضل من اليد ، فاليد لما كانت آلة في العطية الجسمانية قيل : " اليد العليا خير من اليد السفلى " فالعلم الذي هو خير من المال لما كانت آلة إعطائه اللسان وجب أن يكون أشرف الأعضاء ، ولا شك أن اللسان هو الآلة في إعطاء المعارف ، فوجب أن يكون أشرف الأعضاء ، ومن الناس من مدح الصمت لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 42 ] أحدها : قوله عليه السلام : " الصمت حكمة وقليل فاعله " ويروى أن الإنسان تفكر أعضاؤه اللسان ويقلن اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الكلام على أربعة أقسام منه ما ضرره خالص أو راجح ، ومنه ما يستوي الضرر والنفع فيه ومنه ما نفعه راجح ومنه ما هو خالص النفع ، أما الذي ضرره خالص أو راجح فواجب الترك ، والذي يستوي الأمران فيه فهو عيب ، فبقي القسمان الأخيران وتخليصهما عن زيادة الضرر عسر ، فالأولى ترك الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي ، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه اللسان بحق أو باطل ، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء ، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور ، والآذان لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف ، واليد لا تصل إلى غير الأجسام ، وكذا سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد ، فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب ، وإنه خفيف المؤنة سهل التحصيل بخلاف سائر المعاصي فإنه يحتاج فيها إلى مؤن كثيرة لا يتيسر تحصيلها في الأكثر فلذلك كان الأولى ترك الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قالوا : ترك الكلام له أربعة أسماء الصمت والسكوت والإنصات والإصاخة ، فأما الصمت فهو أعمها لأنه يستعمل فيما يقوى على النطق وفيما لا يقوى عليه ولهذا يقال : مال ناطق وصامت وأما السكوت فهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام ، والإنصات سكوت مع استماع ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات قال تعالى : ( فاستمعوا له وأنصتوا ) [ الأعراف : 204 ] والإصاخة استماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد . واعلم أن الصمت عدم ولا فضيلة فيه بل النطق في نفسه فضيلة والرذيلة في محاورته ، ولولاه لما سأل كليم الله ذلك في قوله تعالى : ( واحلل عقدة من لساني ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا في تلك العقدة التي كانت في لسان موسى عليه السلام على قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كان ذلك التعقد خلقة الله تعالى فسأل الله تعالى إزالته .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : السبب فيه أنه عليه السلام حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب منه التمرة والجمرة فقربا إليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه ، وهؤلاء اختلفوا ، فمنهم من قال : لم تحترق اليد ولا اللسان لأن اليد آلة أخذ العصا وهي الحجة ، واللسان آلة الذكر ، فكيف يحترق ؟ ! ولأن إبراهيم عليه السلام لم يحترق بنار نمروذ وموسى عليه السلام لم يحترق حين ألقي في التنور ، فكيف يحترق هنا ؟ ومنهم من قال : احترقت اليد دون اللسان لئلا يحصل حق المواكلة والممالحة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : احترق اللسان دون اليد لأن الصولة ظهرت باليد أما اللسان فقد خاطبه بقوله : يا أبت .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : احترقا معا لئلا تحصل المواكلة والمخاطبة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في أنه عليه السلام لما طلب حل تلك العقدة ؟ على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : لئلا يقع في أداء الرسالة خلل ألبتة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لإزالة التنفير لأن العقدة في اللسان قد تفضي إلى الاستخفاف بقائلها وعدم الالتفات إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : إظهارا للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزا في حقه ، فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : طلب السهولة لأن إيراد مثل هذا الكلام على مثل فرعون في جبروته وكبره عسر جدا ، فإذا انضم إليه تعقد اللسان بلغ العسر إلى النهاية ، فسأل ربه إزالة تلك العقدة تخفيفا وتسهيلا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال الحسن رحمه الله : إن تلك العقدة زالت بالكلية بدليل قوله تعالى : ( قد أوتيت سؤلك ياموسى ) [ ص: 43 ] [ طه : 36 ] وهو ضعيف لأنه عليه السلام لم يقل : واحلل العقدة من لساني بل قال : ( واحلل عقدة من لساني ) فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله ، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء قليل لقوله حكاية عن فرعون : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) [ الزخرف : 52 ] أي يقارب أن لا يبين ، وفي ذلك دلالة على أنه كان يبين مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : المراد بقوله : ( ولا يكاد يبين ) أي لا يأتي ببيان ولا حجة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن " كاد " بمعنى قرب ، ولو كان المراد هو البيان اللساني لكان معناه أنه لا يقارب البيان ، فكان فيه نفي البيان بالكلية ، وذلك باطل لأنه خاطب فرعون والجمع وكانوا يفقهون كلامه ، فكيف يمكن نفي البيان أصلا بل إنما قال ذلك تمويها ليصرف الوجوه عنه ، قال أهل الإشارة إنما قال : ( واحلل عقدة من لساني ) لأن حل العقد كلها نصيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى : ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] فلما كان ذلك حقا ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية