الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها ) فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرئ : ( مثقال حبة ) على كان التامة كقوله تعالى : ( وإن كان ذو عسرة ) [البقرة : 280] وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ( آتينا بها ) وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب ، وفي حرف أبي : جئنا بها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لم أنث ضمير المثقال ؟ قلنا : لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان . واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ، ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : قوله : ( فلا تظلم نفس شيئا ) فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم ، فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح . والجواب : الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق ، ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلا أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال ، فالظلم على الله تعالى محال . وأيضا فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية ، فحينئذ يكون كونه إلها من الجائزات لا من الواجبات ، وذلك يقدح في إلهيته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إن قيل : الحبة أعظم من الخردلة ، فكيف قال : ( حبة من خردل ) ؟ قلنا : الوجه فيه أن [ ص: 154 ] تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار ، والغرض المبالغة في أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وكفى بنا حاسبين ) فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء ، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء ، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه ، ويروى عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك فقال :


                                                                                                                                                                                                                                            حاسبونا فدققوا ثم منوا فأعتقوا

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية