الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قيل ادخل الجنة ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه قتل ، ثم قيل له : ادخل الجنة بعد القتل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : قيل ادخل الجنة عقيب قوله : ( آمنت ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وعلى الأول ، فقوله تعالى : ( قال ياليت قومي يعلمون ) يكون بعد موته والله أخبر بقوله ، وعلى الثاني قال ذلك في حياته ، وكأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به وعلمه ، فقال : يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت ، وفي معنى قوله تعالى : ( قيل ) وجهان كما أن في وقت ذلك وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قيل من القول .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : ادخل الجنة ، وهذا كما في قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن ) ( يس : 82 ) ليس المراد القول في وجه ، بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ ، وكذلك في قوله تعالى : ( وقيل ياأرض ابلعي ) في وجه جعل الأرض بالعة ماءها .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي قوله تعالى : ( بما غفر لي ربي ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن ما استفهامية ، كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف ، وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف ، يقال : بم ، وفيم ، وعم [ ص: 54 ] ولم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : خبرية كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : مصدرية ، كأنه قال : يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي ، والوجهان الآخران هما المختاران .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وجعلني من المكرمين ) قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين : هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى : ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم ) ( سبأ : 4 ) والرجل كان من المؤمنين الصلحاء ، والمكرم على ضد المهان ، والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء ، فيغني الله الصالح عن كل أحد ، ويدفع جميع حاجاته بنفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ) إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه ، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال ههنا : ( وما أنزلنا ) بإسناد الفعل إلى النفس ، وقال في بيان حال المؤمن : ( قيل ادخل الجنة ) بإسناد القول إلى غير مذكور ، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم ، وأما في : ( ادخل الجنة ) فقال : قيل : ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه : ادخل الجنة خالدا فيها ، وكثيرا ما ورد في القرآن قوله تعالى : ( قيل ادخلوا ) ( الزمر : 72 ) إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام ، كما يدخل العريس البيت المزين على رؤوس الأشهاد يهنئه كل أحد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوما لهم ، فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه ، والرسول لكونه مرسلا يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوما له ؟ نقول لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ، وهذا من قوم أولئك في النسب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن العذاب كان مختصا بأقارب ذلك ، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : خصص عدم الإنزال بما بعده ، والله تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا ، فما فائدة التخصيص ؟ نقول : استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا ، فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال : ( من السماء ) وهو تعالى لم ينزل عليهم ، ولا أرسل إليهم جندا من الأرض ، فما فائدة التقييد ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون المراد : وما أنزلنا عليهم جندا بأمر من السماء ، فيكون للعموم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : إن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندا لهم عظمة ، وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : ( وما كنا منزلين ) أية فائدة فيه مع أن قوله : ( وما أنزلنا ) يستلزم أنه لا يكون من المنزلين ؟ نقول قوله : ( وما كنا ) أي ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك ، فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال ، أو نقول : ( وما أنزلنا ، وما كنا منزلين ) في مثل تلك الواقعة جندا في غير تلك الواقعة ، فإن قيل : فكيف أنزل الله جنودا في يوم بدر ، وفي غير ذلك ، حيث قال : ( وأنزل جنودا لم تروها ) ( التوبة : 26 ) ؟ نقول ذلك تعظيما لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإلا كان تحريك ريشة من جناح ملك كافيا في استئصالهم ، وما كان رسل عيسى عليه السلام في درجة محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 55 ] ثم بين الله تعالى ما كان بقوله : ( إن كانت ) الواقعة ( إلا صيحة ) وقال الزمخشري : أصله إن كان شيء إلا صيحة ، فكان الأصل أن يذكر ، لكنه تعالى أنث لما بعده من المفسر وهو الصيحة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( واحدة ) تأكيد لكون الأمر هينا عند الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( فإذا هم خامدون ) فيه إشارة إلى سرعة الهلاك ، فإن خمودهم كان من الصيحة وفي وقتها لم يتأخر ، ووصفهم بالخمود في غاية الحسن ، وذلك لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك ، أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمنا كان ينصحهم ، وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الحالية ، فإذن كانوا كالنار الموقدة ، ولأنهم كانوا جبارين مستكبرين كالنار ومن خلق منها فقال : ( فإذا هم خامدون ) وفيه وجه آخر : وهو أن العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته التي خلقه الله عليها ، ويصير العنصر الآخر بإرادة الله ، فالأحجار تصير مياها ، والمياه تصير أحجارا وكذلك الماء يصير هواء عند الغليان والسخونة والهواء يصير ماء للبرد ، ولكن ذلك في العادة بزمان ، وأما الهواء فيصير نارا والنار تصير هواء بالاشتعال والخمود في أسرع زمان ، فقال : خامدين بسببها ، فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية