الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            لما استدل الله بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي ، فإن دلالة المكان والزمان مناسبة ؛ لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ) ( فصلت : 37 ) ثم قال بعده : ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( فصلت : 39 ) حيث استدل بالزمان والمكان هناك أيضا ، لكن المقصود أولا هناك إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى : ( لا تسجدوا للشمس ) ( فصلت : 37 ) ثم الحشر بدليل قوله تعالى : ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ) ( فصلت : 39 ) وههنا المقصود أولا إثبات الحشر ؛ لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر ، يدل عليه النظر في السورة ، وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى فيه : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) ( فصلت : 9 ) إلى غيره ، وآخر السورتين يبين الأمر ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 62 ] المسألة الأولى : المكان يدفع عن أهل السنة شبه الفلاسفة ، والزمان يدفع عنهم شبه المشبهة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما بيان الأول : فذلك لأن الفلسفي يقول : لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل ، وقبل وبعد لا يتحقق إلا بالزمان ، فقبل العالم زمان والزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه فإن أجابوا بأن فوق السطح الأعلى لا خلا ولا ملا ، نقول : قبل وجود العالم لا آن ولا زمان موجود .

                                                                                                                                                                                                                                            أما بيان الثاني : فلأن المشبهي يقول : لا يمكن وجود موجود إلا في مكان ، فالله في مكان . فنقول : فيلزمكم أن تقولوا : الله في زمان لأن الوهم كما لا يمكنه أن يقول : هو موجود ولا مكان لا يمكنه أن يقول : هو كان موجودا ولا زمان ، وكل زمان هو حادث ، وقد أجمعنا على أن الله تعالى قديم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لو قال قائل : إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان ، فلم اختار الليل حيث قال : ( وآية لهم الليل ) ؟ نقول : لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال : ( وآية لهم الأرض ) ( يس : 33 ) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            ووجه آخر : وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت ، كما قال في الأرض : ( وآية لهم الأرض الميتة ) فذكر في الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ما معنى سلخ النهار من الليل ؟ نقول : معناه تمييزه منه ، يقال : انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه ، وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل : سلخت النهار أو الشمس ، فمعناه دخلت في آخره ، فإن قيل : فالليل في نفسه آية ، فأية حاجة إلى قوله : ( نسلخ منه النهار ) ؟ نقول : الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ، ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها ، وقوله : ( فإذا هم مظلمون ) أي داخلون في الظلام ، وإذا للمفاجأة أي ليس بيدهم بعد ذكر أمر ، ولا بد لهم من الدخول فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية