الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( كذلك يحيي الله الموتى ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في هذه الآية وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أن يكون إشارة إلى نفس ذلك الميت .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه احتجاج في صحة الإعادة ، ثم الاحتجاج أهو على المشركين أو على غيرهم ؟ فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الأصم : إنه على المشركين لأنه إن ظهر لهم بالتواتر أن هذا الإحياء قد كان على هذا الوجه علموا صحة الإعادة ، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر فإنه يكون داعية لهم إلى التفكر . قال القاضي : وهذا هو الأقرب لأنه تقدم منه تعالى ذكر الأمر [ ص: 116 ] بالضرب وأنه سبب إحياء ذلك الميت ، ثم قال : ( كذلك يحيي الله الموتى ) فجمع ( الموتى ) ولو كان المراد ذلك القتيل لما جمع في القول فكأنه قال : دل بذلك على أن الإعادة كالابتداء في قدرته .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال القفال : ظاهر الكلام يدل على أن الله تعالى قال لبني إسرائيل : إحياء الله تعالى لسائر الموتى يكون مثل هذا الإحياء الذي شاهدتم ؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال ولم يشاهدوا شيئا منه ، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم وانتفت عنهم الشبهة التي لا يخلو منها المستدل ، وقد قال إبراهيم عليه السلام : ( رب أرني كيف تحي الموتى ) [البقرة : 260] إلى قوله : ( ليطمئن قلبي ) [البقرة : 260] فأحيا الله تعالى لبني إسرائيل القتيل عيانا ، ثم قال لهم : ( كذلك يحيي الله الموتى ) أي كالذي أحياه في الدنيا يحيي في الآخرة من غير احتياج في ذلك الإيجاد إلى مادة ومدة ومثال وآلة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : من الناس من استدل بقوله تعالى : ( كذلك يحيي الله الموتى ) على أن المقتول ميت وهو ضعيف لأنه تعالى قاس على إحياء ذلك القتيل إحياء الموتى ، فلا يلزم من هذا كون القتيل ميتا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ويريكم آياته ) فلقائل أن يقول : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات ، العالم بكل المعلومات ، المختار في الإيجاد والإبداع ، وعلى صدق موسى عليه السلام ، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا . وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل ، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( لعلكم تعقلون ) ففيه بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كلمة "لعل" قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : ( لعلكم تتقون ) [البقرة : 21] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم وإذا كان العقل حاصلا امتنع أن يقال : إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلا ، فإذن لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها بل لا بد من التأويل وهو أن يكون المراد لعلكم تعملون على قضية عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص ، حتى لا ينكروا البعث ، هذا آخر الكلام في تفسير الآية . واعلم أن كثيرا من المتقدمين ذكر أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا ؟ قالوا : لا ; لأنه روي عن أبي عبيدة السلماني أن الرجل الذي كان قاتلا في هذه الواقعة حرم من الميراث لأجل كونه قاتلا . قال القاضي : لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية لأنه ليس في الظاهر أن القاتل هل كان وارثا لقتيله أم لا ؟ وبتقدير أن يكون وارثا له فهل حرم الميراث أم لا ؟ وليس يجب إذا روي عن أبي عبيدة أن القاتل حرم لمكان قتله الميراث أن يعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدل عليه لا مجملا ولا مفصلا ، وإذا كان لم يثبت أن شرعهم كشرعنا وأنه لا يلزم الاقتداء بهم ، فإدخال هذا الكلام في أحكام القرآن تعسف .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الذي قاله القاضي حق ، ومع ذلك فلنذكر هذه المسألة فنقول : اختلف المجتهدون في أن القاتل هل يرث أم لا ، فعند الشافعي رضي الله عنه لا يرث سواء كان القتل غير مستحق عمدا كان أو خطأ أو كان مستحقا كالعادل إذا قتل الباغي ، وعند أبي حنيفة رحمه الله ، لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا [ ص: 117 ] قتل الباغي فإنه يرثه ، وكذا القاتل إذا كان صبيا أو مجنونا يرثه لا من ديته ولا من سائر أمواله ، هو قول علي وعمر وابن عباس وسعيد بن المسيب ، وقال عثمان البتي : قاتل الخطأ يرث وقاتل العمد لا يرث ، وقال مالك : لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله وهو قول الحسن ومجاهد والزهري والأوزاعي ، واحتج الشافعي رضي الله عنه بعموم الخبر المشهور المستفيض أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ليس للقاتل من الميراث شيء " إلا أن الاستدلال بهذا الخبر إنما يصح لو جوزنا تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، ثم هاهنا دقيقة وهي أن تطرق التخصيص إلى العام يفيد نوع ضعف فلو خصصنا هذا الخبر ببعض الصور فحينئذ يتوالى عليه أسباب الضعف ، فإن كونه خبر واحد يوجب الضعف ، وكونه على مصادمة الكتاب سبب آخر ، وكونه مخصوصا سبب آخر ، فلو خصصنا عموم الكتاب به لكنا قد رجحنا الضعيف جدا على القوي جدا . أما إذا لم يخصص هذا الخبر ألبتة اندفع عنه بعض أسباب الضعف فحينئذ لا يبعد تخصيص عموم الكتاب به . واحتج أبو بكر الرازي على أن العادل إذا قتل الباغي فإنه لا يصير محروما عن الميراث بأنا لا نعلم خلافا أن من وجب له القود على إنسان فقتله قودا أنه لا يحرم من الميراث ، واعلم أن الشافعية يمنعون هذه الصورة والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية