الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثالثة : قوله ( شديد العقاب ) وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : في هذه الآية سؤال وهو أن قوله : ( شديد العقاب ) يصلح أن يكون نعتا للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتا للمعرفة ، تقول : مررت برجل شديد البطش ، ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش ، وقوله : (الله) اسم علم ، فيكون معرفة ، فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفا للنكرة؟ قالوا : وهذا بخلاف قولنا : غافر الذنب وقابل التوب ; لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين ، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غدا ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش ، وأما ( شديد العقاب ) فمشكل ; لأنه في تقدير : شديد عقابه ، فيكون نكرة ، فلا يصح جعله صفة للمعرفة ، وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله : ( وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد ) [البروج : 14- 16] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال الزجاج : إن خفض ( شديد العقاب ) على البدل ; لأن جعل النكرة بدلا من المعرفة وبالعكس أمر جائز ، واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلا من الصفات فيه نبوة ظاهرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه لا نزاع في أن قوله : ( غافر الذنب وقابل التوب ) يحسن جعلهما صفة ، وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار ، فكذلك قوله : ( شديد العقاب ) يفيد معنى الدوام والاستمرار ; لأن صفات الله تعالى منزهة عن الحدوث والتجدد ، فكونه شديد العقاب معناه كونه بحيث يشتد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك ، فهذا ما قيل في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل ; لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه [ ص: 26 ] بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب ، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب ، وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة ، وهو قوله : ( ذي الطول ) ، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة ، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : لقائل أن يقول : ذكر الواو في قوله : ( غافر الذنب وقابل التوب ) ولم يذكرها في قوله : ( شديد العقاب ) فما الفرق؟ قلنا : إنه لو لم يذكر الواو في قوله : ( غافر الذنب وقابل التوب ) لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلا كونه قابل التوب ، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال ; لأن عطف الشيء على نفسه محال ، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه ( غافر الذنب وقابل التوب ) فاستغنى به عن ذكر الواو .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الرابعة : ( ذي الطول ) أي ذي التفضل ، يقال : طال علينا طولا ؛ أي تفضل علينا تفضلا ، ومن كلامهم : طل علي بفضلك ، ومنه قوله تعالى : ( أولو الطول منهم ) [التوبة : 86] ومضى تفسيره عند قوله : ( ومن لم يستطع منكم طولا ) [النساء : 25] واعلم أنه لما وصف نفسه بكونه ( شديد العقاب ) لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتيا بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به ، بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتيا لفعل القبيح ، وإذا ثبت هذا فنقول : ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل ، فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله ; لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول في ماذا ، فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره ، وهو فعل العقاب الحسن دفعا للإجمال ، وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي حسن منه تعالى فعله ، وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز ، وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : التوحيد المطلق وهو قوله : ( لا إله إلا هو ) والمعنى أنه وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحدا وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة ، فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة السادسة : قوله : ( إليه المصير ) وهذه الصفة أيضا مما يقوي الرغبة في الإقرار بعبوديته ; لأنه بتقدير أن يكون موصوفا بصفات الفضل والكرم وكان واحدا لا شريك له ، إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلا لم يكن الخوف الشديد حاصلا من عصيانه ، أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلا كان الخوف أشد والحذر أكمل ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الصفات ، واحتج أهل التشبيه بلفظة ( إلى ) وقالوا : إنها تفيد انتهاء الغاية ، والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية