الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 144 ] ولنرجع إلى التفسير : أورد صاحب "الكشاف" على نفسه سؤالا ، فقال : هلا قيل إلا مودة القربى ، أو إلا مودة للقربى ، وما معنى قوله ( إلا المودة في القربى ) ؟ وأجاب عنه بأن قال : جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ؛ كقوله : لي في آل فلان مودة ، ولي فيهم هوى وحب شديد ، تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - ، والظاهر العموم في أي حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن الله غفور شكور ) والشكور في حق الله تعالى مجاز ، والمعنى : أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم ، وفي أن يزيد عليه أنواعا كثيرة من التفضيل .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال تعالى : ( أم يقولون افترى على الله كذبا ) واعلم أن الكلام في أول السورة إنما ابتدئ في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله ، وهو قوله تعالى : ( كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم ) [الشورى : 3] واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى ، وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا ، ثم حكى ههنا شبهة القوم ، وهي قولهم : إن هذا ليس وحيا من الله تعالى ، فقال : ( أم يقولون افترى على الله كذبا ) قال صاحب "الكشاف" : "أم" منقطعة ، ومعنى الهمزة نفس التوبيخ ؛ كأنه قيل : أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله ، الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ، ثم أجاب عنه بأن قال : ( فإن يشأ الله يختم على قلبك ) وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم "إنه مفتر كذاب" .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب ، فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة ، والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ، ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة ، فيقول الأمين : لعل الله خذلني ، لعل الله أعمى قلبي ، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه ، وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ويمح الله الباطل ويحق الحق ) أي : ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق ، فلو كان محمد مبطلا كذابا لفضحه الله ولكشف عن باطله ، ولما أيده بالقوة والنصرة ، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله ، ويجوز أن يكون هذا وعدا من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ، ويثبت الحق الذي كان محمد - صلى الله عليه وسلم - عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( إنه عليم بذات الصدور ) أي : إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك ، وعن قتادة : يختم على قلبك ينسيك القرآن ، ويقطع عنك الوحي ، بمعنى : لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما قال : ( أم يقولون افترى على الله كذبا ) ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا ، وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقابا عظيما ، لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته ، فقال : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) وفي هذه الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 145 ] المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه ، فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبول ومنشأه ، ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه ، وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة ، وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل ، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي - عليه السلام - : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، فتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة ؟ فقال : اسم يقع على ستة أشياء : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة ؛ كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قالت المعتزلة : يجب على الله تعالى عقلا قبول التوبة ، وقال أصحابنا : لا يجب على الله شيء ، وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل ، واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية ، فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ، ولو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدح العظيم ، ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما ولا يقتلهم غضبا ، كان ذلك مدحا قليلا ، أما إذا قال : إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب علي - كان ذلك مدحا وثناء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( ويعفو عن السيئات ) إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة ، أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر ، أو المراد منه أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة ، والأول باطل ، وإلا لصار قوله ( ويعفو عن السيئات ) عين قوله ( وهو الذي يقبل التوبة ) والتكرار خلاف الأصل ، والثاني أيضا باطل ؛ لأن ذلك واجب ، وأداء الواجب لا يتمدح به ، فبقي القسم الثالث ، فيكون المعنى : أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة ، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية