الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون ) وهو متصل بقوله تعالى ( أم يقولون شاعر نتربص به ) [ الطور : 30] وتقديره على ما ذكرنا أتقولون كاهن ، أم تقولون شاعر ، أم تقوله .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال لبطلان جميع الأقسام ( فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) أي إن كان هو شاعرا ففيكم الشعراء البلغاء والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائد ويقص القصص ولا يختلف الناقص والزائد، فليأتوا بمثل ما أتى به ، والتقول يراد به الكذب . وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن التفعل للتكلف وإراءة الشيء وهو ليس على ما يرى، يقال تمرض فلان أي لم يكن مريضا، وأرى من نفسه المرض وحينئذ كأنهم كانوا يقولون كذب، وليس بقول إنما هو تقول صورة القول، وليس في الحقيقة به ليعلم أن المكذب هو الصادق ، وقوله تعالى : ( بل لا يؤمنون ) بيان هذا أنهم كانوا في زمان نزول الوحي وحصول المعجزة كانوا [ ص: 222 ] يشاهدونها وكان ذلك يقتضي أن يشهدوا له عند غيرهم ويكونوا كالنجوم للمؤمنين كما كانت الصحابة رضي الله عنهم وهم لم يكونوا كذلك بل أقل من ذلك لم يكونوا أيضا وهو أن يكونوا من آحاد المؤمنين الذين لم يشهدوا تلك الأمور ولم يظهر الأمر عندهم ذلك الظهور .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( فليأتوا ) الفاء للتعقيب، أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه وفيه مباحث :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال بعض العلماء ( فليأتوا ) أمر تعجيز بقول القائل لمن يدعي أمرا أو فعلا ويكون غرضه إظهار عجزه ، والظاهر أن الأمر هاهنا يبقى على حقيقته لأنه لم يقل : ائتوا مطلقا بل إنما قال : ائتوا إن كنتم صادقين ، وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط يجب الإتيان به، وأمر التعجيز في كلام الله تعالى قوله تعالى : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ) [ البقرة : 258] وليس هذا بحثا يورث خللا في كلامهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قالت المعتزلة : الحديث محدث والقرآن سماه حديثا فيكون محدثا ، نقول الحديث اسم مشترك ، يقال للمحدث والقديم ، ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم بمعنى متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية، وذلك لا نزاع فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : النحاة يقولون : الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير ، لكن الموصوف حديث وهو منكر، ومثل مضاف إلى القرآن والمضاف إلى المعرف معرف ، فكيف هذا ؟ نقول مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة، وكذلك كل ما هو مثلهما والسبب أن غير أو مثلا وأمثالهما في غاية التنكير ، فإنك إذا قلت ما رأيت شيئا مثل زيد يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئا ، فالجماد مثله في الجسم والحجم والإمكان ، والنبات مثله في النشوء والنماء والذبول والفناء ، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف ، وأما غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف، فإنك إذا قلت غير زيد صار في غاية الإيهام، فإنه يتناول أمورا لا حصر لها ، وأما إذا قطعته عن الإضافة ربما تقول الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس ، أو تجعله مبتدأ وتريد به معنى معينا .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : ( إن كانوا صادقين ) أي في قولهم ( تقوله ) [ الطور : 33] وقد ذكرنا أن ذلك راجع إلى ما سبق من أنه كاهن وأنه مجنون ، وأنه شاعر ، وأنه متقول ، ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك لهان عليهم الإتيان بمثل القرآن ، ولما امتنع كذبوا في الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الخامس : قد ذكرنا أن القرآن معجز ولا شك فيه ، فإن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثل ما يقرب منه عند التحدي فإما أن يكون كونه معجزا لفصاحته وهو مذهب أكثر أهل السنة، وإما أن يكون معجزا لصرف الله عقول العقلاء عن الإتيان بمثله ، وعقله ألسنتهم عن النطق بما يقرب منه ، ومنع القادر من الإتيان بالمقدور كإتيان الواحد بفعل لا يقدر عليه غيره فإن من قال لغيره أنا أحرك هذا الجبل يستبعد منه ، وكذا إذا قال إني أفعل فعلا لا يقدر الخلق [ معه] على حمل تفاحة من موضعها يستبعد منه على أن كل واحد فعل معجز إذا اتصل بالدعوى ، وهذا مذهب بعض المتكلمين ولا فساد فيه وعلى أن يقال هو معجز بهما جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 223 ]

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية