الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فإنه نزله على قلبك ) ففيه سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : الهاء في قوله تعالى : " فإنه " وفي قوله : " نزله " إلى ماذا يعود ؟ الجواب فيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الهاء الأولى تعود على جبريل ، والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله : ( ما ترك على ظهرها من دابة ) [ فاطر : 45 ] يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم . أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله . قال صاحب " الكشاف " : إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : القرآن إنما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فما السبب في قوله نزله على قلبك ؟ الجواب : هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظا حتى أداه إلى أمته ، فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظا جاز أن يقال : نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : كان حق الكلام أن يقال على قلبي ، والجواب : جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي ، من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : كيف استقام قوله : ( فإنه نزله ) جزاء للشرط ؟ والجواب فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذورا ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكورا فكيف تليق به العداوة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك ، لأنه نزل عليك الكتاب برهانا على نبوتك ، ومصداقا لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( بإذن الله ) فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم ، واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن إنزاله كان من الواجبات ، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( مصدقا لما بين يديه ) فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ، ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن [ ص: 180 ] القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب ، فلم صار بأن يكون مصدقا لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها ؟ قلنا : الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة ، وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وهدى ) فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ، ولما كان الأول مقدما على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى ، فإن قيل : ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل ؟ الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى إنما خصهم بذلك ، لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى : ( هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين ، وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين ، فلهذا خصهم الله به .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الآية الثانية وهي قوله تعالى : ( من كان عدوا لله وملائكته ) فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى : ( من كان عدوا لجبريل ) لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد ، وجب أن يكون عدوا لله تعالى ، بين في هذه الآية أن من كان عدوا لله كان عدوا له ، فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم ، لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر ، وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه ، وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ؟ والجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وذلك محال على الله تعالى ، بل المراد منه أحد وجهين ، إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] وكقوله : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) [ الأحزاب : 57 ] لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة ، فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم ، وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة ، وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة ؟ الجواب لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنسا آخر سوى جنس الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما ، فلا جرم نص على اسميهما ، واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل ، وإذا ثبت هذا فنقول : يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر ، وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفا فوجب أن يكون مستقبحا شرعا [ ص: 181 ] لقوله عليه السلام : " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ، ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى في صفة جبريل : ( مطاع ثم أمين ) [ التكوير : 21 ] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار ، ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل ، وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل ، وفيه لغة أخرى ميكيئل على وزن ميكيعل ، وميكئيل كميكعيل ، قال ابن جني : العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الواو في جبريل وميكال ، قيل : واو العطف ، وقيل : بمعنى أو يعني من كان عدوا لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ( عدو للكافرين ) أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية