الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) أما الكلام في تفسير لفظة اللائي ، فقد تقدم في سورة الأحزاب عند قوله : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون ) ثم في الآية سؤالان : وهو أن ظاهرها يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل ؛ لأنه قال في آية أخرى : ( وأخواتكم من الرضاعة ) [ النساء : 23 ] وفي آية أخرى : ( وأزواجه أمهاتهم ) [ الأحزاب : 6 ] ولا يمكن أن يدفع هذا السؤال بأن المعنى من كون المرضعة أما وزوجة الرسول أما حرمة النكاح ؛ وذلك لأنا نقول : إن بهذا الطريق ظهر أنه لا يلزم من عدم الأمومة الحقيقية عدم الحرمة ، فإذا لا يلزم من عدم كون الزوجة أما عدم الحرمة ، وظاهر الآية يوهم أنه تعالى استدل بعدم الأمومة على عدم الحرمة ، وحينئذ يتوجه السؤال .

                                                                                                                                                                                                                                            ( والجواب ) : أنه ليس المراد من ظاهر الآية ما ذكره السائل ، بل تقدير الآية كأنه قيل : الزوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذا اللفظ سببا لوقوع الحرمة حتى تحصل الحرمة ، فإذا لا تحصل الحرمة هناك البتة . فكان وصفهم لها بالحرمة كذبا وزورا .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإن الله لعفو غفور ) إما من غير التوبة لمن شاء كما قال : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) أو بعد التوبة .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) قال الزجاج : "الذين" رفع بالابتداء ، وخبره فعليهم تحرير رقبة ، ولم يذكر عليهم ؛ لأن في الكلام دليلا عليه ، وإن شئت أضمرت "فكفارتهم تحرير رقبة" .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا ) فاعلم أنه كثر اختلاف الناس في تفسير هذه الكلمة ، ولا بد أولا من بيان أقوال أهل العربية في هذه الكلمة ، وثانيا من بيان أقوال أهل الشريعة ، وفيها مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 223 ] المسألة الأولى : قال الفراء : لا فرق في اللغة بين أن يقال : يعودون لما قالوا ، وإلى ما قالوا ، وفيما قالوا . أبو علي الفارسي : كلمة "إلى" واللام ، يتعاقبان ، كقوله : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا ) [ الأعراف : 43 ] وقال : ( فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) [ الصافات : 23 ] وقال تعالى : ( وأوحي إلى نوح ) [ هود : 36 ] وقال : ( بأن ربك أوحى لها ) [ الزلزلة : 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لفظ " ما قالوا" في قوله : ( ثم يعودون لما قالوا ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه لفظ الظهار ، والمعنى أنهم يعودون إلى ذلك اللفظ .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون المراد بقوله : ( لما قالوا ) المقول فيه ، وهو الذي حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، ونظيره قوله تعالى : ( ونرثه ما يقول ) أي ونرثه المقول ، وقال عليه السلام : " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " وإنما هو عائد في الموهوب ، ويقول الرجل : اللهم أنت رجاؤنا ، أي مرجونا ، وقال تعالى : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99 ] أي الموقن به ، وعلى هذا معنى قوله : ( ثم يعودون لما قالوا ) أي يعودون إلى الشيء الذي قالوا فيه ذلك القول ، ثم إذا فسرنا هذا اللفظ بالوجه الأول فنقول : قال أهل اللغة : يجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي فعله مرة أخرى ، ويجوز أن يقال : عاد لما فعل ، أي نقض ما فعل ، وهذا كلام معقول ؛ لأن من فعل شيئا ثم أراد أن يقال مثله فقد عاد إلى تلك الماهية لا محالة أيضا ، وأيضا من فعل شيئا ثم أراد إبطاله فقد عاد إليه ؛ لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعود إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ظهر مما قدمنا أن قوله : ( ثم يعودون لما قالوا ) يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة ، ويحتمل أن يكون المراد منه ، ثم يعودون إلى تكوين مثله مرة أخرى ، أما الاحتمال الأول فهو الذي ذهب إليه أكثر المجتهدين ، واختلفوا فيه على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول الشافعي أن معنى العود لما قالوا : السكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك لأنه لما ظاهر فقد قصد التحريم ، فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع منه من إيقاع التحريم ، ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق فذاك يدل على أنه ندم على ما ابتدأ به من التحريم ، فحينئذ تجب عليه الكفارة ، واحتج أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن " على فساد هذا القول من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال : ( ثم يعودون لما قالوا ) و"ثم" تقتضي التراخي ، وعلى هذا القول يكون المظاهر عائدا عقيب القول بلا تراخ ، وذلك خلاف مقتضى الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه شبهها بالأم ، والأم لا يحرم إمساكها ، فتشبيه الزوجة بالأم لا يقتضي حرمة إمساك الزوجة ، فلا يكون إمساك الزوجة نقضا لقوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن لا يفسر العود بهذا الإمساك .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن هذا أيضا وارد على قول أبي حنيفة ، فإنه جعل تفسير العود استباحة الوطء ، فوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي ، مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك ، فثبت أن هذا الإشكال وارد عليه أيضا ، ثم نقول : إنه ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه ، لا يحكم عليه بكونه عائدا ، فقد تأخر كونه عائدا عن كونه مظاهرا بذلك القدر من الزمان ، وذلك يكفي في العمل بمقتضى كلمة "ثم" .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أن الأم يحرم إمساكها على سبيل الزوجية ويحرم الاستمتاع بها ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، ليس فيه بيان أن التشبيه وقع في إمساكها على سبيل الزوجية ، أو في الاستمتاع بها ، فوجب حمله على الكل ، فقوله : أنت علي كظهر أمي ، يقتضي [ ص: 224 ] تشبيهها بالأم في حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فإذا لم يطلقها فقد أمسكها على سبيل الزوجية ، فكان هذا الإمساك مناقضا لمقتضى قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب الحكم عليه بكونه عائدا ، وهذا كلام ملخص في تقرير مذهب الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في تفسير العود ، وهو قول أبي حنيفة : أنه عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، قالوا : وذلك لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء ، ثم قصد استباحة هذه الأشياء -كان ذلك مناقضا لقوله : أنت علي كظهر أمي ، واعلم أن هذا الكلام ضعيف ؛ لأنه لما شبهها بالأم لم يبين أنه في أي الأشياء شبهها بها ، فليس صرف هذا التشبيه إلى حرمة الاستمتاع وحرمة النظر أولى من صرفه إلى حرمة إمساكها على سبيل الزوجية ، فوجب أن يحمل هذا التشبيه على الكل ، وإذا كان كذلك ، فإذا أمسكها على سبيل الزوجية لحظة ، فقد نقض حكم قوله : أنت علي كظهر أمي ، فوجب أن يتحقق العود .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في تفسير العود وهو قول مالك : أن العود إليها عبارة عن العزم على جماعها . وهذا ضعيف ؛ لأن القصد إلى جماعها لا يناقض كونها محرمة ، إنما المناقض لكونها محرمة القصد إلى استحلال جماعها ، وحينئذ نرجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : في تفسير العود -وهو قول طاوس والحسن البصري : أن العود إليها عبارة عن جماعها ، وهذا خطأ ؛ لأن قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) بفاء التعقيب في قوله : ( فتحرير رقبة ) يقتضي كون التكفير بعد العود ، ويقتضي قوله : ( من قبل أن يتماسا ) أن يكون التكفير قبل الجماع ، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود وقبل الجماع ، وجب أن يكون العود غير الجماع ، واعلم أن أصحابنا قالوا : العود المذكور ههنا هب أنه صالح للجماع ، أو للعزم على الجماع ، أو لاستباحة الجماع ، إلا أن الذي قاله الشافعي -رحمه الله - هو أقل ما ينطلق عليه الاسم ، فيجب تعليق الحكم عليه ؛ لأنه هو الذي به يتحقق مسمى العود ، وأما الباقي فزيادة لا دليل عليها البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            الاحتمال الثاني : في قوله : ( ثم يعودون ) أي يفعلون مثل ما فعلوه ، وعلى هذا الاحتمال في الآية أيضا وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الثوري : العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام ، وتقريره أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بالظهار ، فجعل الله تعالى حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، فقال : ( والذين يظاهرون من نسائهم ) يريد في الجاهلية : ( ثم يعودون لما قالوا ) أي في الإسلام ، والمعنى أنهم يقولون في الإسلام مثل ما كانوا يقولونه في الجاهلية ، فكفارته كذا وكذا ، قال أصحابنا : هذا القول ضعيف ؛ لأنه تعالى ذكر الظهار وذكر العود بعده بكلمة "ثم" ، وهذا يقتضي أن يكون المراد من العود شيئا غير الظهار ، فإن قالوا : المراد : والذين كانوا يظاهرون من نسائهم قبل الإسلام ، والعرب تضمر لفظ كان كما في قوله : ( واتبعوا ما تتلو الشياطين ) [البقرة : 102] أي ما كانت تتلو الشياطين ، قلنا : الإضمار خلاف الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فقد عاد ، فإن لم يكن يكرر لم يكن عودا ، وهذا قول أهل الظاهر ، واحتجوا عليه بأن ظاهر قوله : ( ثم يعودون لما قالوا ) يدل على إعادة ما فعلوه ، وهذا لا يكون إلا بالتكرير ، وهذا أيضا ضعيف من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لو كان المراد هذا لكان يقول : ثم يعيدون ما قالوا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : حديث أوس فإنه لم يكرر الظهار ، إنما عزم على الجماع ، وقد ألزمه رسول الله الكفارة ، وكذلك حديث سلمة بن صخرة البياضي فإنه قال : كنت لا أصبر عن الجماع ، فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي مخافة أن لا أصبر عنها بعد طلوع الفجر ، فظاهرت منها شهر رمضان كله ثم لم أصبر فواقعتها ، فأتيت رسول الله [ ص: 225 ] فأخبرته بذلك وقلت : أمض في حكم الله ، فقال : " أعتق رقبة " فأوجب الرسول -عليه السلام -عليه الكفارة مع أنه لم يذكر تكرار الظهار .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : قال أبو مسلم الأصفهاني : معنى العود ، هو أن يحلف على ما قال أولا من لفظ الظهار ، فإنه إذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياسا على ما لو قال في بعض الأطعمة : إنه حرام علي كلحم الآدمي ، فإنه لا تلزمه الكفارة ، فأما إذا حلف عليه لزمه كفارة اليمين ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين هناك ، وفي قتل الخطأ ولا يمين هناك .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية