الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلفوا فيما يحرمه الظهار ، فللشافعي قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه يحرم الجماع فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : وهو الأظهر أنه يحرم جميع جهات الاستمتاعات . وهو قول أبي حنيفة -رحمه الله -ودليله وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله تعالى : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) فكان ذلك عاما في جميع ضروب المسيس ، من لمس بيد أو غيرها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ) ألزمه حكم التحريم بسبب أنه شبهها بظهر الأم ، فكما أن مباشرة ظهر الأم ومسه يحرم عليه ، فوجب أن يكون الحال في المرأة كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : روى عكرمة " أن رجلا ظاهر من امرأته ، ثم واقعها قبل أن يكفر ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال : اعتزلها حتى تكفر " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مرارا ، فقال الشافعي وأبو حنيفة : لكل ظهار كفارة إلا أن يكون في مجلس واحد ، وأراد بالتكرار التأكيد ، فإنه يكون عليه كفارة واحدة ، وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة مائة فليس عليه إلا كفارة واحدة ، دليلنا أن قوله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ) ( فتحرير رقبة ) يقتضي كون الظهار علة لإيجاب الكفارة ، فإذا وجد الظهار الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة ، والظهار الثاني إما أن يكون علة للكفارة الأولى ، أو لكفارة ثانية ، والأول باطل ؛ لأن الكفارة وجبت بالظهار الأول ، وتكوين الكائن محال ، ولأن تأخر العلة عن الحكم محال ، فعلمنا أن الظهار الثاني يوجب كفارة ثانية ، واحتج مالك بأن قوله : ( والذين يظاهرون ) يتناول من ظاهر مرة واحدة ومن ظاهر مرارا كثيرة ، ثم إنه تعالى أوجب عليه تحرير رقبة ، فعلمنا أن التكفير الواحد كاف في الظهار ، سواء كان مرة واحدة أو مرارا كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنه تعالى قال : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين ) [ المائدة : 89 ] فهذا يقتضي أن لا يجب في الأيمان الكثيرة إلا كفارة واحدة ، ولما كان باطلا ، فكذا ما قلتموه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : رجل تحته أربعة نسوة ، فظاهر منهن بكلمة واحدة وقال : أنتن علي كظهر أمي ، للشافعي قولان : أظهرهما أنه يلزمه أربع كفارات ؛ نظرا إلى عدد اللواتي ظاهر منهن ، ودليله ما ذكرنا أنه ظاهر عن هذه ، فلزمه كفارة بسبب هذا الظهار ، وظاهر أيضا عن تلك ، فالظهار الثاني لا بد وأن يوجب كفارة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : الآية تدل على إيجاب الكفارة قبل المماسة ، فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحاق رحمهم الله . وقال بعضهم : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان ، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي ، دليلنا أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود ، فههنا فاتت صفة القبلية ، فيبقى أصل وجوب الكفارة ، وليس في [ ص: 226 ] الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : الأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها ، ويجبره على التكفير ، وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع . قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قال أبو حنيفة رحمه الله : هذه الرقبة تجزئ سواء كانت مؤمنة أو كافرة ؛ لقوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) فهذا اللفظ يفيد العموم في جميع الرقاب ، وقال الشافعي : لا بد وأن تكون مؤمنة ، ودليله وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المشرك نجس ؛ لقوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) [ التوبة : 28 ] وكل نجس خبيث بإجماع الأمة ، وقال تعالى : ( ولا تيمموا الخبيث ) [ البقرة : 267 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أجمعنا على أن الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فكذا ههنا ، والجامع أن الإعتاق إنعام ، فتقييده بالإيمان يقتضي صرف هذا الإنعام إلى أولياء الله وحرمان أعداء الله ، وعدم التقييد بالإيمان قد يفضي إلى حرمان أولياء الله ، فوجب أن يتقيد بالإيمان تحصيلا لهذه المصلحة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : إعتاق المكاتب لا يجزئ عند الشافعي رحمه الله . وقال أبو حنيفة رحمه الله : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئا جاز عن الكفارة ، وإذا أعتقه بعد أن يؤدي شيئا فظاهر الرواية أنه لا يجزئ ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجزئ ، حجة أبي حنيفة أن المكاتب رقبة ؛ لقوله تعالى : ( وفي الرقاب ) والرقبة مجزئة ؛ لقوله تعالى : ( فتحرير رقبة ) حجة الشافعي أن المقتضي لبقاء التكاليف بإعتاق الرقبة قائم ، بعد إعتاق المكاتب ، وما لأجله ترك العمل به في محل الرقاب غير موجود ههنا ، فوجب أن يبقى على الأصل ، بيان المقتضي أن الأصل في الثابت البقاء على ما كان ، بيان الفارق أن المكاتب كالزائل عن ملك المولى وإن لم يزل عن ملكه ، لكنه يمكن نقصان في رقه ، بدليل أنه صار أحق بمكاسبه ، ويمتنع على المولى التصرفات فيه ، ولو أتلفه المولى يضمن قيمته ، ولو وطئ مكاتبته يغرم المهر ، ومن المعلوم أن إزالة الملك الخالص عن شوائب الضعف أشق على المالك من إزالة الملك الضعيف ، ولا يلزم من خروج الرجل عن العهدة بإعتاق العبد القن خروجه عن العهدة بإعتاق المكاتب .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أجمعنا على أنه لو أعتقه الوارث بعد موته لا يجزئ عن الكفارة ، فكذا إذا أعتقه المورث ، والجامع كون الملك ضعيفا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه ، لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يقع ، حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية ، وحجة الشافعي ما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : قال أبو حنيفة : الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام ، وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير . حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام ، وحقيقة الإطعام هو التمكين ؛ بدليل قوله تعالى : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) [ المائدة : 89 ] وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك ، فكذا ههنا ، وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة العاشرة : قال الشافعي : لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه ، حنطة أو شعيرا أو أرزا أو تمرا أو أقطا ، وذلك بمد النبي -صلى الله عليه وسلم -ولا يعتبر مد حدث بعده ، وقال أبو حنيفة : يعطى كل مسكين نصف [ ص: 227 ] صاع من بر أو دقيق أو سويق ، أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير ، ولا يجزئه دون ذلك ، حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام ، ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية ، فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي ، فلا بد من حمله على أقل ما لا بد منه ظاهرا ، وذلك هو المد ، حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت : ( لكل مسكين نصف صاع من بر ) وعن علي وعائشة قالا : لكل مسكين مدان من بر ؛ ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين ، فيكون نظير صدقة الفطر ، ولا يتأدى ذلك بالمد ، بل بما قلنا ، فكذلك هنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الحادية عشرة : لو أطعم مسكينا واحدا ستين مرة لا يجزئ عند الشافعي ، وعند أبي حنيفة يجزئ ، حجة الشافعي ظاهر الآية ، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا ، فوجب رعاية ظاهر الآية ، وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل ، وللشافعي أن يقول : التحكمات غالبة على هذه التقديرات ، فوجب الامتناع فيها من القياس ، وأيضا فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنسانا أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية عشرة : قال أصحاب الشافعي : إنه تعالى قال في الرقبة : ( فمن لم يجد فصيام شهرين ) وقال في الصوم : ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) فذكر في الأول : ( فمن لم يجد ) وفي الثاني : ( فمن لم يستطع ) فقالوا : من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال ، أما من كان مريضا في الحال ، فإنه ينتقل إلى الإطعام ، وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله ; قالوا : والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام : ( فمن لم يستطع ) وهو بسبب المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع ، وقال في الرقبة : ( فمن لم يجد ) والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالا يشتري به رقبة ، ومن ماله غائب لا يسمى فاقدا للمال ، وأيضا يمكن أن يقال في الفرق : إحضار المال يتعلق باختياره ، وأما إزالة المرض فليس باختياره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة عشرة : قال بعض أصحابنا : الشبق المفرط والغلمة الهائجة عذر في الانتقال إلى الإطعام ، والدليل عليه أنه عليه السلام " لما أمر الأعرابي بالصوم قال له : وهل أتيت إلا من قبل الصوم ؟ فقال -عليه السلام - : أطعم " دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام ، وأيضا الاستطاعة فوق الوسع ، والوسع فوق الطاقة ، فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ، ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق ، فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية