الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 210 ] أما قوله تعالى : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه الأخف .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه الأصلح ، وهذا أولى ؛ لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه ، لا على ما هو أخف على طباعه . فإن قيل : لو كان الثاني أصلح من الأول ، لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به ؟ قلنا : الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول ، والثاني بالعكس منه ، فزال السؤال . واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال قوم : لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل ، واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه ، أو بما يكون مثله ، وذلك صريح في وجوب البدل . والجواب : لم لا يجوز أن يقال : المراد أن نفي ذلك الحكم ، وإسقاط التعبد به - خير من ثبوته في ذلك الوقت ، ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا إلى بدل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال قوم : لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه ، واحتجوا بأن قوله : ( نأت بخير منها أو مثلها ) ينافي كونه أثقل ؛ لأن الأثقل لا يكون خيرا منه ولا مثله . والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في الآخرة ، ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر . إذا عرفت هذا فنقول : أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة ، وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها . وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة ، واستدل عليه بهذه الآية من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها ، وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه ، كما إذا قال الإنسان : ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه ، يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن قوله تعالى : ( نأت بخير منها ) يفيد أنه القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله : ( نأت بخير منها ) يفيد أن المأتي به خير من الآية ، والسنة لا تكون خيرا من القرآن .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه قال : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات ، وذلك هو الله تعالى . والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها : أن قوله تعالى : ( نأت بخير منها ) ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا مغايرا للناسخ يحصل بعد حصول النسخ ، والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتبا على الإتيان بهذا الخير ، لزم الدور وهو باطل ، ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة ؛ لأن آية الوصية للأقربين منسوخة ، بقوله عليه الصلاة والسلام : " ألا لا وصية لوارث " وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم .

                                                                                                                                                                                                                                            قال الشافعي - رضي الله عنه - : أما الأول فضعيف ؛ لأن كون الميراث حقا للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، وأما الثاني فضعيف أيضا ؛ لأن عمر - رضي الله عنه - روى أن قوله " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة " كان قرآنا ، فلعل النسخ إنما وقع به ، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 211 ] أما قوله تعالى : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) فتنبيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته ، وأنه لا دافع لما أراد ، ولا مانع لما اختار .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كلام الله تعالى لو كان قديما لكان الناسخ والمنسوخ قديمين ، لكن ذلك محال ؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخرا عن المنسوخ ، والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديما ، وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع ، وما ثبت زواله استحال قدمه بالاتفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض ، وما كان كذلك لا يكون قديما .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله : ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها ، والإتيان بشيء آخر بدلا من الأول ، وما كان داخلا تحت القدرة وكان فعلا كان محدثا ، أجاب الأصحاب عنه : بأن كونه ناسخا ومنسوخا إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ، ولا نزاع في حدوثها ، فلم قلتم : إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث ؟ قالت المعتزلة : ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر ، فالتعلق الأول محدث ؛ لأنه زال ، والقديم لا يزول ، والتعلق الثاني حادث ؛ لأنه حصل بعدما لم يكن ، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات ، وما لا ينفك عن هذه التعلقات ( محدث ) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثا .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الأصحاب : أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم ، فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق ؟ فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادرا على إيجاد الموجود ، وهو محال ، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق ؛ فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه ، وكذلك علم الله كان متعلقا بأن العالم سيوجد ، فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلا ، وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثا ؛ لأنه لو كان قديما لما زال ، ويكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثا ، فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة ، وما لا ينفك عن المحدث محدث ، فعالمية الله محدثة ، فكل ما تجعلونه جوابا عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة العاشرة : احتجوا بقوله تعالى : ( أن الله على كل شيء قدير ) على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده ، والقدير فعيل بمعنى الفاعل ، وهو بناء المبالغة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية