الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولا في قوله : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) ثم ذكر ثانيا حال المؤمنين في قوله : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله ) أعاد في آخر هذه السورة [ ص: 47 ] ذكر كلا الفريقين ، فبدأ أيضا بحال الكفار ، فقال : ( إن الذين كفروا ) واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الخلود في نار جهنم والثاني : أنهم شر الخلق ، وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر ؟ الجواب : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه ، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال : اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارا فكأنه - عليه السلام -قال : كانت الضربة ثم على وجه الصورة ، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة ، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال : كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حق نفسي ، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر . إذا عرفت ذلك فنقول : أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول ، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله ، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولا في النكاية بذكر من طعن في محمد - عليه الصلاة والسلام -وهم أهل الكتاب ، ثم ثانيا بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول - عليه السلام -كانت أعظم ؛ لأن المشركين رأوه صغيرا ونشأ فيما بينهم ، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم ، وهذا أمر شاق ، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لم ذكر : ( كفروا ) بلفظ الفعل : ( والمشركين ) باسم الفاعل ؟ والجواب : تنبيها على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه - عليه السلام - بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون القيامة ، أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين ، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب ؟ والجواب : يقال : بئر جهنام إذا كان بعيد القعر ، فكأنه تعالى يقول : تكبروا طلبا للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين ، ثم إن الفريقين وإن اشتركا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب ، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين : إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك ، وهذا القسم الثاني هو أقبح القسمين ، والإحسان أيضا على قسمين : إحسان إلى من أحسن إليك ، وإحسان إلى من أساء إليك ، وهذا أحسن القسمين ، فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان ، وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة ، ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية ، فبالشتم تعزير ، وبالقذف حد وبالسرقة قطع ، وبالزنا رجم ، وبالقتل قصاص ، بل شتم المماثل يوجب التعزير ، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل ، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات ، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات ، وهو نار [ ص: 48 ] جهنم ، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة ، ثم كأنه قال قائل : هب أنه ليس هناك رجاء الفرار ، فهل هناك رجاء الإخراج ؟ فقال : لا ، بل يبقون خالدين فيها ، ثم كأنه قيل : فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم ؟ فقال : لا بل يذمونهم ، ويلعنونهم لأنهم شر البرية .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : ما السبب في أنه لم يقل ههنا : خالدين فيها أبدا ، وقال في صفة أهل الثواب : ( خالدين فيها أبدا ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل ، أما الثواب فأقسامه لا تتداخل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : روي حكاية عن الله أنه قال : يا داود ، حببني إلى خلقي ، قال : وكيف أفعل ذلك ؟ قال : اذكر لهم سعة رحمتي ، فكان هذا من هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الخامس : كيف القراءة في لفظ البرية ؟ الجواب : قرأ نافع " البريئة " بالهمز ، وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق ، والقياس فيها الهمز ، إلا أنه ترك همزه ، كالنبي والذرية والخابية ، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال ، كما أن من همز النبي كان كذلك ، وترك الهمز فيه أجود ، وإن كان الهمز هو الأصل ، لأن ذلك صار كالشيء المرفوض المتروك . وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال : إنه من البرا الذي هو التراب .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال السادس : ما الفائدة في قوله : هم شر البرية ؟ الجواب : أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم ، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها ، شر من السراق ، لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر من قطاع الطريق ، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق ، وشر من الجهال الأجلاف ، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال السابع : هذه الآية هل هي مجراة على عمومها ؟ الجواب : لا بل هي مخصوصة بصورتين :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثانية : قال بعضهم : لا يجوز أن يدخل في الآية من مضى من الكفار ، لأن فرعون كان شرا منهم ، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر ، لأنهم أفضل الأمم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية