الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( الذي أطعمهم من جوع )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( الذي أطعمهم من جوع ) وفي هذا الإطعام وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : قال مقاتل : شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق ، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه ، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر ، ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك ، فكفاهم الله مؤونة الرحلتين .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : قال الكلبي : [ ص: 102 ] هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم ، فقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا : يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط ، فذاك قوله : ( أطعمهم من جوع ) ثم في الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم ، والإطعام ليس من أصول النعم ، فلماذا علل وجوب العبادة بالإطعام ؟ والجواب : من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة ، وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم ، ثم أمرهم بالعبادة ، فكأن السائل يقول : لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس ، فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي يطعمنا ؟ فقال : الذي أطعمهم من جوع ، قبل أن يعبدوه ، ألا يطعمهم إذا عبدوه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه ، ثم إنه يطعمهم مع ذلك ، فكأنه تعالى يقول : إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك ؟ !

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : إنما ذكر الإنعام ، لأن البهيمة تطيع من يعلفها ، فكأنه تعالى يقول : لست دون البهيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أليس أنه جعل الدنيا ملكا لنا بقوله : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [ البقرة : 29 ] فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا ؟ الجواب : انظر في الأشياء التي لا بد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ ، وفي الأشياء التي لا بد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول ، فإنك تعلم أنه لا بد من الأفلاك والكواكب ، ولا بد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام ، ولا بد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام ، وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم ، فكيف بأكرم الأكرمين ؟ الجواب : ليس الغرض منه المنة ، بل الإرشاد إلى الأصلح ، لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة ، بل تقوية البنية على أداء الطاعات ، فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله : ( من جوع ) ؟ الجواب : فيه فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : التنبيه على أن أمر الجوع شديد ، ومنه قوله تعالى : ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ) [ الشورى : 28 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة : لأنه لم يقل : وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع ، أما الإشباع فإنه يورث البطنة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية