الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : الكفار لما شتموه ، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة ، فقال : ( إن شانئك هو الأبتر ) وهكذا سنة الأحباب ، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه ، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم ، وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا : ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أافترى على الله كذبا أم به جنة ) [ سبأ : 7 ] فقال سبحانه : ( بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) [ سبأ : 8 ] وحين قالوا : هو مجنون أقسم ثلاثا ، ثم قال : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) [ القلم : 2 ] ولما قالوا : ( لست مرسلا ) [ الرعد : 43 ] أجاب فقال : ( يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ) [ يس : 3 ] وحين قالوا : ( أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ) [ الصافات : 36 ] رد عليهم وقال : ( بل جاء بالحق وصدق المرسلين ) [ الصافات : 37 ] فصدقه ، ثم ذكر وعيد خصمائه ، وقال : ( إنكم لذائقو العذاب الأليم ) [ الصافات : 38 ] وحين قال حاكيا : ( أم يقولون شاعر ) [ الطور : 30 ] قال : ( وما علمناه الشعر ) [ يس : 69 ] ولما حكى عنهم قولهم : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) [ الفرقان : 4 ] سماهم كاذبين بقوله : ( فقد جاءوا ظلما وزورا ) [ الفرقان : 4 ] ولما قالوا : ( مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) [ الفرقان : 7 ] أجابهم فقال : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) [ الفرقان : 20 ] فما أجل هذه الكرامة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة ، وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهورا ، لا جرم وعده بقهر العدو ، فقال : ( إن شانئك هو الأبتر ) وفيه لطائف :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : كأنه تعالى يقول : لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك ، وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : وصفه بكونه شانئا ، كأنه تعالى يقول : هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك ، والمبغض إذا عجز عن الإيذاء ، فحينئذ يحترق قلبه غيظا وحسدا ، فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر ؛ لأنه كان شانئا له ومبغضا ، والأمر بالحقيقة كذلك ، فإن من عادى محسودا فقد عادى الله تعالى ، لا سيما من تكفل بإعلاء شأنه وتعظيم مرتبته .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن العدو وصف محمدا عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة ، ونفسه بالكثرة والدولة ، فقلب الله الأمر عليه ، وقال العزيز من أعزه الله ، والذليل من أذله الله ، فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام ، والأبترية والدناءة والذلة للعدو ، فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية