الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) [ ص: 92 ] تحصل في الآخرة أو في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            فالقول الأول : إنها تقع في الآخرة ، والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان . الأول : وهو الذي عليه الأكثرون : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم ، روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون ، فتقول الأمم : من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون ، وهذا باطل عند القاضي ، إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم ) [ الأنعام : 23- 24 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء ؟

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعا ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق ، فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ، ولا يقبل شهادة الأمم عليهم ، إظهارا لعدالتهم وكشفا عن فضيلتهم ومنقبتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها ، قال ابن زيد : الأشهاد أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد . قال تعالى : ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] وقال : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وقال : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10- 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكيا عن عيسى - عليه السلام - : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) ، وقال في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته في هذه الآية : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ، وقال : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] . وثالثها : شهادة أمة محمد خاصة ، قال تعالى : ( وجيء بالنبيين والشهداء ) [ الزمر : 69 ] وقال تعالى : ( ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51 ] . ورابعها : شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه ، قال تعالى : ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم ) [ النور : 24 ] الآية ، وقال : ( اليوم نختم على أفواههم ) [ يس : 65 ] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو [ ص: 93 ] الرؤية ، يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ، ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهودا ، والعارف بالشيء : شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شاهدا على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جاريا مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضا شاهدا ، ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهدا عليه ، والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة ؛ لأن الله تعالى جعلهم عدولا في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا ، إنما قلنا : إنه تعالى جعلهم عدولا في الدنيا ؛ لأنه تعالى قال : ( وكذلك جعلناكم أمة ) وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهودا في الدنيا ؛ لأنه تعالى قال : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطا ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطا في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ، فإن قيل : تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهدا وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة . قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة ، والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء لا التحمل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضا ، واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهودا في الدنيا ، وهذا لا ينافي كونهم شهودا في القيامة أيضا على الوجه الذي وردت الأخبار به ، فالحاصل أن قوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث إن قولهم : عند الإجماع يبين للناس الحق ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) يعني مؤديا ومبينا ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل ؛ لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ، ثم يشهد بذلك عند الحاكم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة ، والخوارج ، والروافض ، فإنه لا يعتد به في الإجماع ؛ لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقول أو فعل ، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : إنما قال : ( شهداء على الناس ) ولم يقل : شهداء للناس؛ لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل ، وذلك عليه لا له في الحال ، فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا ؟ قلنا ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيدا عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية