الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في معين الشوق إلى الله تعالى : اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه ، فأما الذي لم يدرك أصلا فلا يشتاق إليه ، فإن لم ير شخصا ولم يسمع وصفه ، لم يتصور أن يشتاق إليه ، ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ، ولا سائر محاسنه ، فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط ، والوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى ، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين ، فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح مشوب بشوائب الخيالات ، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات ، وهي مدركات للمعارف الروحانية ، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة ، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فيما اتضح اتضاحا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها ، وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة ، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقا إلى معرفتها ، والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ، ولا يتصور أن يكون في الدنيا ، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية ؛ إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته ، وحكمته في أفعاله ، وهي غير متناهية ، والاطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال ، وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى ، واعلم أن ذلك الشوق لذيذ ؛ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان ، والحرمان ، والوصول ، والصد آلاما مخلوطة بلذات ، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان ، كانت أقوى ، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر ، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل ، والبهائم لا تستعد لها ، أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حبا لله ، أما المتكلمون فقالوا : إن حبهم لله يكون من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن ما يصدر منهم من التعظيم ، والمدح والثناء ، والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ، ومحبة غيرهم ليست كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد ، وأما العارفون فقالوا : المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية ، وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان ، فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد ، فإن قيل : كيف يمكن أن يقال : محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ، ولا يأتون بها إلا لله تعالى ، ثم يقتلون أنفسهم حبا لله .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله ، بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة ، وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأنداد ، قال تعالى : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) [ العنكبوت : 6 ] إلى آخره ، والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء ، والكافر قد يعرض عن ربه ، فكان حب المؤمن أقوى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن من أحب غيره رضي [ ص: 188 ] بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه ، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب ، فالذي فعلوه باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قال ابن عباس : إن المشركين كانوا يعبدون صنما ، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن المؤمنين يوحدون ربهم ، والكفار يعبدون مع الصنم أصناما فتنقص محبة الواحد ، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية