الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم ، والمسفرة المكنسة ؛ لأنها تسفر التراب عن الأرض ، والسفير الداخل بين اثنين للصلح ؛ لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما ، والمسفر المضيء ؛ لأنه قد انكشف وظهر ، ومنه أسفر الصبح ، والسفر الكتاب ؛ لأنه يكشف عن المعاني ببيانه ، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب ، قال الأزهري : وسمي المسافر مسافرا لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء ، وسمي السفر سفرا ؛ لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ، ويظهر ما كان خافيا منهم ، واختلف الفقهاء في قدر السفر المبيح للرخص ، فقال داود : الرخص حاصلة في كل سفر ولو كان السفر فرسخا ، وتمسك فيه بأن الحكم لما كان معلقا على كونه مسافرا ، فحيث تحقق هذا المعنى حصل هذا الحكم ، أقصى ما في الباب أنه يروى خبر واحد في تخصيص هذا العموم ، لكن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز ، وقال الأوزاعي : السفر المبيح مسافة يوم ؛ وذلك لأن أقل من هذا القدر قد يتفق للمقيم ، وأما الأكثر فليس عدد أولى من عدد ، فوجب الاقتصار على الواحد ، ومذهب الشافعي أنه مقدر بستة عشر فرسخا ، ولا يحسب منه مسافة الإياب ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدر أميال البادية ، كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاث أقدام خطوة ، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق ، وقال أبو حنيفة والثوري : رخص السفر لا تحصل إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرين فرسخا ، حجة الشافعي وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) مقتضاه أن يترخص المسافر مطلقا ترك العمل به فيما إذا كان السفر مرحلة واحدة ؛ لأن تعب اليوم الواحد يسهل تحمله ، أما إذا تكرر التعب في اليومين فإنه يشق تحمله فيناسب الرخصة تحصيلا لهذا التخفيف .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : من الخبر وهو ما رواه الشافعي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان ، قال أهل اللغة : وكل بريد أربعة فراسخ فيكون مجموعه ستة عشر فرسخا ، وروي عن الشافعي أيضا أن عطاء قال لابن عباس : أقصر إلى عرفة ؟ فقال : لا . فقال : إلى مر الظهران ؟ فقال : لا . ولكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف ، قال مالك : بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد ، وحجة أبي حنيفة أيضا من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) [ البقرة : 185 ] يقتضي وجوب الصوم عدلنا عنه في ثلاثة أيام بسبب الإجماع على أن هذا القدر مرخص ، والأقل منه مختلف فيه ، فوجب أن يبقى وجوب الصوم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : من الخبر وهو قوله عليه السلام : " يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن " دل الخبر على أن لكل مسافر أن يمسح ثلاثة أيام ، ولا يكون كذلك حتى تتقدر مدة السفر ثلاثة أيام ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام جعل السفر علة المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن وجعل هذا المسح معلولا والمعلول لا يزيد على العلة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أنه معارض بما ذكرناه من الآية فإن رجحوا جانبهم بأن الاحتياط في العبادات [ ص: 65 ] أولى ، رجحنا جانبنا بأن التخفيف في رخص السفر مطلوب الشرع ، بدليل قوله عليه السلام : " هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا منه صدقته " والترجيح لهذا الجانب ؛ لأن الدليل الدال على أن رخص السفر مطلوبة للشرع أخص من الدليل الدال على وجوب رعاية الاحتياط .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أنه عليه السلام قال : " يمسح المقيم يوما وليلة " ، وهذا لا يدل على أنه لا تحصل الإقامة في أقل من يوم وليلة ، لأنه لو نوى الإقامة في موضع الإقامة ساعة صار مقيما ، فكذا قوله : " والمسافر ثلاثة أيام " لا يوجب أن لا يحصل السفر في أقل من ثلاثة أيام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : لقائل أن يقول : رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضا أو مسافرا ، ولم يقل هكذا ، بل قال : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : إن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات : فإن حصلت حصلت وإلا فلا ، وأما السفر فليس كذلك ؛ لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفرا ، وإن عدم السفر كان هو في ذلك السكون مسافرا ؛ فإذن كونه مسافرا أمر يتعلق بقصده واختياره ، فقوله : ( على سفر ) ، معناه كونه على قصد السفر ، والله أعلم بمراده .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية