الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض ، وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 68 ] وأما القسم الأول : فقد ذكر الله حكمه في قوله : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم ، فإليهما الإشارة بقوله : ( وعلى الذين يطيقونه فدية ) ، فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام .

                                                                                                                                                                                                                                            والثانية : أن يكون مطيقا للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيرا بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) المقيم الصحيح ؛ فخيره الله تعالى أولا بين هذين ، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقا معينا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم ، قالوا : وتقريره من وجهين أحدهما : أن الوسع فوق الطاقة . فالوسع اسم لمن كان قادرا على الشيء على وجه السهولة ، أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادرا على الشيء مع الشدة والمشقة ، فقوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في تقرير هذا القول القراءة الشاذة " وعلى الذين يطيقونه " فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشيء مع ضرب من المشقة .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول السدي : أنه هو الشيخ الهرم ، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ، يروى أن أنسا كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا ، وقال آخرون : إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع . سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما وعلى ولديهما ، فقال : فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية ، أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا ، فهل عليهما الفدية ؟ فقال الشافعي - رضي الله عنه : عليهما الفدية ، وقال أبو حنيفة : لا تجب . حجة الشافعي أن قوله : ( وعلى الذين يطيقونه فدية ) يتناول الحامل والمرضع ، وأيضا الفدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضا عليهما ، وأبو حنيفة فرق فقال : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية ، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما ، فلو أوجبنا الفدية عليهما أيضا كان ذلك جمعا بين البدلين ، وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل ، فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الأول : وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الآية ، وهو الذي لا يمكن تحمله ، أو المراد كل ما يسمى مرضا ، أو المراد منه ما يكون متوسطا بين هاتين الدرجتين ، والقسم الثاني باطل بالاتفاق ، والقسم الثالث أيضا باطل ؛ لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة ، وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما تحتها قوية ، فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ، ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول ، وذلك لأنه مضبوط ، فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 69 ] إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية دل على إيجاب الصوم ، وهو قوله : كتب عليكم الصيام أياما معدودات ثم بين أحوال المعذورين ، ولما كان المعذورون على قسمين : منهم من لا يطيق الصوم أصلا ، ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة ، فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية في تقرير هذا القول : إنه لا يقال في العرف للقادر القوي إنه يطيق هذا الفعل ؛ لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ، ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى ، فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر ، وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ البقرة : 185 ] ، ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) لائقا بهذا الموضع ، لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ، ورفع وجوبه على سبيل التخيير ، فكان ذلك رفعا لليسر وإثباتا للعسر ، فكيف يليق به أن يقول : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال : إن قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) معطوف على المسافر والمريض ، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم البتة ، والمراد من قوله : ( وعلى الذين يطيقونه ) المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم ، فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف ، أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران ، وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني ، واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث ، وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال : لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية : ( وأن تصوموا خير لكم ) ؛ لأنه لا يطيقه ، ولقائل أن يقول : هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له : لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيرا لك ، فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية