الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فإني قريب ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه ليس المراد من هذا القرب بالجهة والمكان ، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين :

                                                                                                                                                                                                                                            المطلوب الأول : في بيان أن هذا القرب ليس قربا بحسب المكان ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه لو كان في المكان مشارا إليه بالحس لكان منقسما ، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد . ولو كان منقسما لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة ، وجزء الشيء غيره ، فلو كان في مكان لكان مفتقرا إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق ، وذلك في حق الخالق القديم محال ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات ، أو غير متناه عن جهة دون جهة ، أو كان متناهيا من كل الجوانب ؛ والأول محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني محال أيضا لهذا الوجه ، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهيا والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه ، فيلزم منه كونه تعالى مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع ، والخصم لا يقول بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن يكون متناهيا من كل الجوانب ، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا ، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بالجهة ، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريبا من الكل ، بل كان يكون قريبا من حملة العرش وبعيدا من غيرهم ، ولكان إذا كان قريبا من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيدا من عمرو الذي هو بالمغرب ، فلما دلت الآية علىكونه تعالى قريبا من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قربا بحسب الجهة ، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم ، أو المراد من هذا القرب : العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى : ( وهو معكم أين ما كنتم ) [ الحديد : 4 ] ، وقال : ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) [ ق : 16 ] ، وقال : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) [ المجادلة : 7 ] والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلا بالتشبيه ، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : أين ربنا ؟ صح أن يكون الجواب : فإني قريب ، وكذلك إن سألوه - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : هل يسمع ربنا دعاءنا ؟ صح أن يقول في جوابه : فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بإخفائه ؟ صح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء ؟ صلح هذا الجواب أيضا ، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا ؟ صلح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، أي : فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول التوبة منهم ، فثبت أن هذا الجواب مطابق [ ص: 83 ] للسؤال على جميع التقديرات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية