الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة ، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات ، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوها ؛ أما يوم التروية ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : من روى يروي تروية ، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول : ففيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 148 ] أحدها : أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت ، فلما بناه تفكر فقال : رب إن لكل عامل أجرا ، فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك ، قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به ، قال : زدني قال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك ، قال : حسبي يا رب حسبي .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكرا هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان ؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الثاني : وهو اشتقاقه من تروية الماء ، ففيه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنهم يتزودون الماء إلى عرفة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن المذنبين كالعطاش وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا ، وأما فضل هذا اليوم فدل عليه قوله تعالى : ( والشفع والوتر ) [الفجر : 3] عن ابن عباس بأن الشفع التروية وعرفة ، والوتر يوم النحر ، وعن عبادة أنه عليه الصلاة والسلام قال : صيام عشر الأضحى ، كل يوم منها كالشهر ، ولمن يصوم يوم التروية سنة ، ولمن يصوم يوم عرفة سنتان وروى أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال : من صام يوم التروية أعطاه الله مثل ثواب أيوب على بلائه ، ومن صام يوم عرفة أعطاه الله تعالى مثل ثواب عيسى ابن مريم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء ، خمسة منها مختصة به ، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الخمسة الأولى :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدها : عرفة ، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه مشتق من المعرفة ، وفيه ثمانية أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قول ابن عباس أن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمي اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب ، وحواء بجدة ، وإبليس بنيسان ، والحية بأصفهان ، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن آدم علمه جبريل مناسك الحج ، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟ قال نعم ، فسمي عرفات .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قول علي وابن عباس وعطاء والسدي : سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن الحاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : في اشتقاق عرفة أنه من الاعتراف ؛ لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء ، ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة . ويقال : إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 149 ] والقول الثالث : أنه من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ؛ قال تعالى : ( ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) [محمد : 6] أي طيبها لهم ، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة ، قال عليه الصلاة والسلام : خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : يوم إياس الكفار من دين الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : يوم إكمال الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : يوم إتمام النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : يوم الرضوان .

                                                                                                                                                                                                                                            وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات ، في قوله : ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) [المائدة : 3] الآية ، قال عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية عرفة ، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام ، وذلك في حجة الوداع ، وقد اضمحل الكفر ، وهدم بنيان الجاهلية ، فقال عليه الصلاة والسلام : لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم فقال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين ، كان يوم عرفة ويوم الجمعة . فأما معنى : إياس المشركين : فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم ، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع ، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين ؛ لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار ، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء ( وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) [المائدة : 6] ولما جاء البشير وقدم على يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة ، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام ، فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم ، فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين ، وقيل : هذا اليوم يوم صلة الواصلين ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [المائدة : 3] ويوم قطيعة القاطعين ( أن الله بريء من المشركين ورسوله ) [التوبة : 3] ويوم إقالة عثر النادمين ، وقبول توبة التائبين ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [الأعراف : 23] فكما تاب برحمته على آدم فيه ، فكذلك يتوب على أولاده ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) [الشورى : 25] وهو أيضا يوم وفد الوافدين ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ) [الحج : 27] وفي الخبر : " الحاج وفد الله ، والحاج زوار الله ، وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره " .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة :

                                                                                                                                                                                                                                            فأحدها : يوم الحج الأكبر ؛ قال الله تعالى : ( وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) [التوبة : 3] وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر ، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه فمنهم من قال : إنه عرفة ، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم ، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر . قال الحسن : سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك ، وقال ابن سيرين : إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى ، وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ، ومنهم من قال : إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج ، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ في الليل ، وروي القولان جميعا عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وثانيها : الشفع . وثالثها : الوتر . ورابعها : الشاهد . وخامسها : المشهود في قوله : ( وشاهد ومشهود ) [البروج : 3] وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى خص يوم عرفة من بين سائر أيام الحج بفضائل ، منها أنه تعالى خص صومه بكثرة [ ص: 150 ] الثواب ؛ قال عليه الصلاة والسلام : صوم يوم التروية كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وعن أنس كان يقال في أيام العشر : كل يوم بألف ويوم عرفة بعشرة آلاف بل يستحب للحاج الواقف بعرفات أن يفطر حتى يكون وقت الدعاء قوي القلب حاضر النفس .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية