الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الباب الثاني

                                                                                                                                                                                                                                            في المباحث العقلية المستنبطة من قولنا : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الكلام في هذا الباب يتعلق بأركان خمسة : الاستعاذة ، والمستعيذ ، والمستعاذ به ، والمستعاذ منه ، والشيء الذي لأجله تحصل الاستعاذة .

                                                                                                                                                                                                                                            الركن الأول :

                                                                                                                                                                                                                                            في الاستعاذة وفيه مسائل : -

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى :

                                                                                                                                                                                                                                            في تفسير قولنا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بحسب اللغة فنقول : قوله ( أعوذ ) مشتق من العوذ وله معنيان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الالتجاء والاستجارة .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : الالتصاق يقال : " أطيب اللحم عوذه " وهو ما التصق منه بالعظم ، فعلى الوجه الأول معنى قوله : أعوذ بالله ، أي : ألتجئ إلى رحمة الله تعالى وعصمته ، وعلى الوجه الثاني معناه ألتصق نفسي بفضل الله وبرحمته .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الشيطان ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول أنه مشتق من الشطن ، وهو البعد ، يقال : شطن دارك أي بعد ، فلا جرم سمي كل متمرد من جن وإنس ودابة شيطانا لبعده من الرشاد والسداد ، قال الله تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) [ الأنعام : 112 ] فجعل من الإنس شياطين ، وركب عمر برذونا فطفق يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال : ما حملتموني إلا على شيطان .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : إن الشيطان مأخوذ من قوله : شاط يشيط إذا بطل ، ولما كان كل متمرد كالباطل في نفسه بسبب كونه مبطلا لوجوه مصالح نفسه سمي شيطانا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الرجيم فمعناه المرجوم ، فهو فعيل بمعنى مفعول . كقولهم : كف خضيب ، أي : مخضوب . ورجل لعين ، أي : ملعون . ثم في كونه مرجوما وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كونه مرجوما كونه ملعونا من قبل الله تعالى ، قال الله تعالى : ( فاخرج منها فإنك رجيم ) [ الحجر : 34 ] واللعن يسمى رجما ، وحكى الله تعالى عن والد إبراهيم عليه السلام أنه قال له : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) [ مريم : 46 ] قيل : عنى به الرجم بالقول ، وحكى الله تعالى عن قوم نوح أنهم قالوا : ( لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين ) [ الشعراء : 116 ] وفي سورة يس : ( لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ) [ يس : 18 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني أن الشيطان إنما وصف بكونه مرجوما : لأنه تعالى أمر الملائكة برمي الشياطين بالشهب والثواقب طردا لهم من السماوات ، ثم وصف بذلك كل شرير متمرد .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 62 ] وأما قوله : ( إنه هو السميع العليم ) [ الأنفال : 61 ] ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الغرض من الاستعاذة الاحتراز من شر الوسوسة ، ومعلوم أن الوسوسة كأنها حروف خفية في قلب الإنسان ، ولا يطلع عليها أحد فكأن العبد يقول : يا من هو على هذه الصفة التي يسمع بها كل مسموع ويعلم كل سر خفي : أنت تسمع وسوسة الشيطان وتعلم غرضه فيها ، وأنت القادر على دفعها عني ، فادفعها عني بفضلك ، فلهذا السبب كان ذكر السميع العليم أولى بهذا الموضع من سائر الأذكار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه إنما تعين هذا الذكر بهذا الموضع اقتداء بلفظ القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) [ : 200 ] وقال في حم السجدة : ( إنه هو السميع العليم ) [ فصلت : 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية