الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وإلى الله ترجع الأمور ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : من المجسمة من قال : كلمة "إلى" لانتهاء الغاية ، وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى في مكان ينتهى إليه يوم القيامة ، أجاب أهل التوحيد عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا [ ص: 186 ] من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه كما قال : ( والأمر يومئذ لله ) [الانفطار : 19] وهذا كقولهم : رجع أمرنا إلى الأمير إذا كان هو يختص بالنظر فيه ، ونظيره قوله تعالى : ( وإلى الله المصير ) [النور : 42] مع أن الخلق الساعة في ملكه وسلطانه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال أبو مسلم : إنه تعالى قد ملك كل أحد في دار الاختبار والبلوى أمورا امتحانا فإذا انقضى أمر هذه الدار ووصلنا إلى دار الثواب والعقاب كان الأمر كله لله وحده وإذا كان كذلك فهو أهل أن يتقى ويطاع ، ويدخل في السلم كما أمر ، ويحترز عن خطوات الشيطان كما نهى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم "ترجع" بضم التاء على معنى ترد ، يقال : رجعته أي رددته ، قال تعالى : ( ولئن رجعت إلى ربي ) [فصلت : 50] وفي موضع آخر : ( ولئن رددت إلى ربي ) [الكهف : 36] وفي موضع آخر : ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) [الأنعام : 62] وقال تعالى : ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ) [المؤمنون : 99] أي ردني ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي "ترجع" بفتح التاء أي تصير ، كقوله تعالى : ( ألا إلى الله تصير الأمور ) [الشورى : 53] وقوله : ( إن إلينا إيابهم ) [الغاشية : 25] ( إلى الله مرجعكم ) [المائدة : 48] .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القفال رحمه الله : والمعنى في القراءتين متقارب ، لأنها ترجع إليه جل جلاله ، وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة ، ثم قال : وفي قوله : ( ترجع الأمور ) بضم التاء ثلاث معان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : هذا الذي ذكرناه ، وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية : ( وقضي الأمر ) وهو قاضيها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه على مذهب العرب في قولهم : فلان يعجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يذهب بك ، وإن لم يكن أحد يذهب به .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون ، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله : ( ترجع الأمور ) أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كما قال : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض ) [الجمعة : 1] فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال ، لا بحسب النطق باللسان ، وعليه يحمل أيضا قوله : ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) [الرعد : 15] قيل : إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعا ، ويسجد له الكفار كرها بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله ، فكذا يجوز أن يقال : إن العباد يردون أمورهم إلى الله ، ويعترفون برجوعها إليه ، أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكفار فبشهادة الحال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية