الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : للنحويين في هذه الآية وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قول البصريين ، وهو الذي اختاره الزجاج أن قوله : ( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه ) كلها مرفوعة بالابتداء ، وخبرها قوله : ( أكبر عند الله ) ، والمعنى : أن القتال الذي سألتم عنه ، وإن كان كبيرا ، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه ، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام ، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال ، مع أن له فيه عذرا ظاهرا ، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) [البقرة : 44] ، ( لم تقولون ما لا تفعلون ) [الصف : 2] وهذا وجه ظاهر ، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله : ( والمسجد الحرام ) ، وذكروا فيه وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه عطف على الهاء في به .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو قول الأكثرين أنه عطف على ( سبيل الله ) قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) [الحج : 25] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير ، فإنه لا يقال : مررت به وعمرو ، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية : صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فقوله : عن المسجد الحرام صلة للصد ، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد ، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزا .

                                                                                                                                                                                                                                            أجيب عن الأول : لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير : وكفر به وبالمسجد الحرام ، والإضمار في كلام الله ليس بغريب ، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة ( تساءلون به والأرحام ) على سبيل الخفض ، ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولا بالاتفاق ، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولا ، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا : لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول ، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن موضع قوله : ( وكفر به ) عقيب قوله : ( والمسجد الحرام ) إلا أنه قدم [ ص: 29 ] عليه لفرط العناية ، كقوله تعالى : ( ولم يكن له كفوا أحد ) كان من حق الكلام أن يقال : ولم يكن له أحد كفؤا ، إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في هذه الآية ، وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني : أن قوله تعالى : ( والمسجد الحرام ) عطف بالواو على الشهر الحرام ، والتقدير : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ، ثم بعد هذا طريقان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : ( قتال فيه ) مبتدأ ، وقوله : ( كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ) خبر بعد خبر ، والتقدير : إن قتالا فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله ، وبأنه كفر بالله .

                                                                                                                                                                                                                                            والطريق الثاني : أن يكون قوله : ( قتال فيه كبير ) جملة مبتدأ وخبر ، وأما قوله : ( وصد عن سبيل الله ) فهو مرفوع بالابتداء ، وكذا قوله : ( وكفر به ) والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، والتقدير : قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ، ونظيره قولك : زيد منطلق وعمرو ، تقديره : وعمرو منطلق ، طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا : أما قولكم : تقدير الآية : يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف ; لأن السؤال كان واقعا عن القتال في الشهر الحرام ، لا عن القتال في المسجد الحرام ، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا بالله ، وهو خطأ بالإجماع ، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك : ( وإخراج أهله منه أكبر ) أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر ، وهو خطأ بالإجماع .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام ؟ بل الظاهر أنه وقع ؛ لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام ، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال ، وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفرا .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفرا ، ونحن نقول به ; لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم ، وعندنا أن قتالا واحدا في المسجد الحرام كفر ، ولا يلزم أن كل قتال كذلك ، وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر ، قلنا : المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة ، وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفرا فهو ظلم ; لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ، ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلما وكفرا ، أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفرا وحده ، فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : في الآية قوله : ( قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به ) وجهه ظاهر ، وهو أن قتالا فيه موصوف بهذه الصفات ، وأما الخفض في قوله : ( والمسجد الحرام ) فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية