الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

" وصفته أن يضرب بيديه على الأرض الصعيد الطيب ضربة واحدة ، فيمسح بهما وجهه وكفيه ؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمار : ( إنما يكفيك هكذا ، وضرب بيديه الأرض فمسح بها وجهه وكفيه ) ، وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز " .

في هذه المسألة فصول :

أحدها : أن التيمم يجزئ بضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه ؛ لأن الله تعالى قال : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) وهذا يحصل بضربة واحدة وتراب واحد ، فلا يجب أكثر من ذلك ، ولذلك لما أمكن غسل الفم والأنف [ ص: 412 ] بغرفة واحدة ومسح الرأس بماء واحد أجزأ ( مسح الوجه واليدين بغبار واحد ) ، فإذا قيل : غبار الضربة الأولى يذهب بمسح الوجه ، قلنا : إنما يجزئ إذا مسح الوجه ببطون الأصابع ، فيبقى بطن الراحة لليد ، أو يمسح الوجه بالطبقة الأولى من التراب ، ويبقى على اليد غبار يمسحها به ، فإذا لم يبق غبار لزمه ضربة ثانية كما إذا لم يبق ماء للاستنشاق ولا بلل للأذن .

واليد المطلقة في الشرع من مفصل الكوع ، بدليل آية السرقة والمحاربة ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده " ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره " .

ولأن اليد إما أن تكون مشتركة بين المفاصل الثلاثة أو حقيقة في البعض مجازا في البعض أو حقيقة في القدر المشترك ، فإن كان الأول فوجوب المسح إلى الكوع متيقن ، وما زاد مشكوك فيه يحتاج إلى دليل ، وإن كان الثاني فينبغي أن يكون حقيقة في اليد إلى مفصل الكوع ؛ لئلا يلزم المجاز في الآيات والأحاديث ، ولا ينعكس ذلك بأنه لم نعن باليد ما هو إلى مفصل الإبط في خطاب الشرع ، وإنما فعله الصحابة احتياطا ، وإن كان الثالث فالقدر المشترك هو إلى الكوع ، ولأن اليد عند الإطلاق خلافها عند التقييد .

فأما أن يراد بها أقصى ما يسمى يدا أو أقل ما يسمى يدا ، والأول باطل ، فيتعين الثاني .

[ ص: 413 ] فإن قيل : هي مطلقة في التيمم مقيدة في الوضوء ، فيحمل المطلق على المقيد ؛ لأنهما من جنس واحد وهو الطهارة ، ولأن المطلق بدل المقيد فيحكيه ، قلنا : إن سلمناه فإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان نوعا واحدا ، كالعتق في الظهار والجماع ، واليمين على العتق في القتل ، وكذلك الشهادة المطلقة في قوله تعالى : ( فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ) هي من نوع الشهادة المفسرة في قوله : ( ممن ترضون من الشهداء ) والمسح بالتراب ليس هو من جنس الوضوء بالماء ، ثم قد اختلفا في القدر ، فهذا في عضوين وذلك في أربعة ، وفي الصفة فالوضوء شرع في التثليث ، وهو مكروه في التيمم ، والوجه في الوضوء يغسل والأنف منه ( و ) باطن الفم وباطن الشعر الخفيف ، ويخلل ، وذلك كله يكره في التيمم ، وهذا البدل مبني على التخفيف ، فكيف يلحق بما هو مبني على الإسباغ ، ثم البدل الذي هو مسح الخف والعمامة لم يحك مبدله في الاستيعاب مع أنه بالماء ، فأن لا يحكيه المسح بالتراب أولى ، ثم يدل على فساد ذلك أن الصحابة لما تيمموا إلى الآباط لم يفهموا حمل المطلق على المقيد هنا ، وهم أهل الفهم للسان ، وقد حقق ذلك ما خرجاه في الصحيحين عن عمار بن ياسر قال : أجنبت فلم أصب الماء ، فتمعكت في الصعيد وصليت ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إنما يكفيك هكذا ، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ، ثم مسح بهما وجهه وكفيه " .

[ ص: 414 ] وفي لفظ الدارقطني : إنما يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين .

وعن عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " في التيمم ضربة للوجه والكفين " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه .

قال أصحابنا : والأفضل أن يضرب بيديه الصعيد مفرجة أصابعه ، ويمسح ظاهر كفه اليمنى بباطن راحته اليسرى بأن يمر الراحة من رءوس أصابع اليد اليمنى حتى تنتهي إلى الكوع ، ثم يمسح ظاهر إبهام اليمنى بباطن إبهام اليسرى ، ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك ، ويخلل بين الأصابع ، ولو مسح الوجه بجميع اليدين ثم مسح إحداهما بالأخرى جاز وإن لم يبق عليهما غبار واحتاج إلى ضربة أخرى ؛ لأنه لا بد من مسح الوجه واليدين بالصعيد ، هكذا ذكر طائفة من أصحابنا ، وهو ظاهر المنقول عن أحمد .

قال أبو داود : " رأيت أحمد علم رجلا التيمم ، فضرب بيديه على الأرض ضربة خفيفة ، ثم مسح إحداهما بالأخرى مسحا خفيفا ، كأنه نفض منهما التراب ، ثم مسح بهما وجهه مرة ، ثم مسح كفيه إحداهما بالأخرى " .

وقال القاضي : " لا يجوز أن يمسح وجهه بجميع كفيه لأنه يصير التراب الذي على راحتيه مستعملا ، فإذا مسح به ظهر كفيه لم يجزئه " . وهذا ضعيف ؛ لأن المستعمل ما وصل إلى الوجه ، أما ما يبقى في اليد فليس بمستعمل كما تقدم مثل هذا في الوضوء .

التالي السابق


الخدمات العلمية