الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل :

ويجوز أن يجمع بتيمم واحد بين طوافين كطواف الإفاضة وطواف منذور ، وكذلك بين صلاتي جنازة ، ذكره القاضي ، كالجمع بين صلاتين في الوقت وأولى ، وتبطل كذلك بخروج وقت الصلاة كالتيمم للفريضة ، وكذلك التيمم للنافلة مقدر بوقت المكتوبة ؛ لأنه إذا بطل بخروج الوقت بتيمم الفريضة ، فما سواه [ ص: 445 ] أولى ، والمنصوص عن أحمد أنه إذا صلى على الجنازة بتيمم ثم جيء بجنازة أخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم ، وإن كان بينهما وقت يمكنه فيه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم ، وهذا لأن التيمم للجنازة ونحوها لا يتقدر بوقت المكتوبة لأنه لا يستبيح به المكتوبة ، فالفعل المتواصل في هذه العبادات ، كتواصل الوقت بالوقت للمكتوبة ، فإذا وجبت الثانية بعد زمن يتسع للتيمم صارت مستقلة بنفسها وانفصل وقتها عن وقت الأولى كصلاتي الوقتين ، وعلى قياس المنصوص كل ما ليس له وقت محدد من العبادات كمس المصحف والطواف ونحوهما ، وحمل القاضي هذا على الاستحباب ، وظاهر المنصوص خلافه ؛ فعلى هذا النوافل المؤقتة " كالوتر " والكسوف والسنن الرواتب وصلاة الليل تبطل بخروج وقت تلك النافلة ، وأما النوافل المطلقة فيحتمل أن تكون كالجنازة ونحوها يقدر فيه تواصل الفعل ، ويحتمل أن يمتد وقتها إلى وقت النهي عن النافلة ، فأما إن كان التيمم للمكتوبة تعلق الحكم بوقتها فيصلي فيه ما شاء من جنائز ونوافل لأن ذلك سبيل التبع للمكتوبة .

الشرط الثالث : ( النية : فإن تيمم لنافلة لم يصل به فريضة ، وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها ) أما النية في الجملة فلا بد منها كالوضوء والغسل وأوكد ؛ لأن التراب في نفسه ليس بمطهر وإنما يصير مطهرا بالنية ، ولأن المسح بالتراب إذا خلا عن نية كان عبثا وتغبيرا محضا ، وقد قيل : لأنه جاء في القرآن بلفظ القصد بقوله " فتيمموا " وهذا ضعيف لأن القصد للتراب لا لنفس العبادة .

وصيغة النية هنا أن ينوي استباحة فعل من الأفعال التي يمنعها الحدث كالصلاة ومس المصحف ، فأما إن نوى رفع الحدث لم يصح ، وخرج الأصحاب رواية : أنه يصح ، بناء على أن التيمم كالوضوء في صحة بقائه إلى ما بعد الوقت ، وعلى هذا فصفة نيته كصفة نية الوضوء ، أن يتيمم لما يجب له التيمم [ ص: 446 ] كالصلاة فرضها ونفلها ، ارتفع المنع مطلقا ، وإن نواه لما تستحب له النية ففيه وجهان ، كالوضوء ، ولا يلزم من هذا أن يكون التيمم رافعا للحدث ، بل يرفع منع الحدث ؛ لأن المقصود من رفع الحدث إزالة منعه ، وذلك موجود هنا ، فإذا وجد الماء عاد المنع ، والتزم بعض أصحابنا على هذا أن التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا إلى حين وجود الماء ، فإذا وجد الماء عاد بموجب السبب السابق ، كما يقول : إن تخمر العصير يخرجه من عقد الرهن ، فإذا تخلل عاد بموجب العقد السابق ، وكما قلنا في طهارة مسح الخفين على أقوى الوجهين ، وقال ابن حامد : إن نوى به استباحة الصلاة مطلقا صلى به المكتوبة وإن تيمم لنافلة فلا ، والمشهور أنه لا يستبيح بالتيمم إلا ما نواه وما هو مثله أو دونه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأن الحدث قائم لم يرتفع كما تقدم ، وإنما يبيح التيمم ما نواه كما تقدم ولا يلزم من إباحة الأدنى إباحة الأعلى ، فعلى هذا إذا تيمم لصلاة حاضرة مفروضة أو فائتة أو مطلقة فعل جميع ما سواها ؛ لأن الفرض أكمل أنواع الممنوعات بالحدث المباحة بالتيمم ، ولا فرق بين أن تكون واجبة بالشرع أو النذر ، وعلى مقتضى كلام أصحابنا لا يستبيح فعل الفرض إلا بنية ، وإذا نوى نافلة الصلاة المطلقة أو المعينة فله فعل جميع النوافل ، والطواف فرضه ونفله ومس المصحف ؛ لأن الطهارة للنافلة أوكد لها منهما ؛ لاشتراطها للصلاة إجماعا ، ولا يباح فرض الجنازة لأنها واجبة ، ولو تيمم للجنازة الواجبة أبيحت الصلاة النافلة لأنها دونها ، ويتخرج أنه لا يصح ، إلا أن أحمد جعل الطهارة لنفل الصلاة أوكد منه للجنازة ، وإن تيمم للطواف أبيح له اللبث في المسجد وقراءة القرآن ، وكذلك ينبغي أن يكون مس المصحف أو قراءة القرآن أو اللبث في المسجد لم يستبح غير ذلك ، وقيل : يستبيح بنية مس المصحف والقراءة واللبث بخلاف العكس ، وكل واحد من القراءة واللبث [ ص: 447 ] بنية الآخر ، وهذا أصح ؛ لأن ما اشترط له الطهارة أعلى مما اشترط له الطهارة الكبرى ، وقال القاضي يستبيح بنية مس المصحف وقراءة القرآن جميع النوافل لأن جميع ذلك نافلة فهي في درجة واحدة ، ولو تيمم الصبي لصلاة ثم بلغ لم يجز أن يصليها به لأنه كان لنافلة ، وله أن يتنفل قبل الفريضة وبعدها . وعنه : ليس له أن يتنفل قبلها إلا السنن الرواتب لئلا يصير النفل متبوعا بخلاف السنن الرواتب فإن نية الفريضة تتضمنها .

الشرط الرابع : ( التراب ، فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار ) هذه ثلاثة شروط ؛ الأول : أنه لا يتيمم إلا بالتراب خاصة ، وعنه أنه يجوز بالرمل ، وحملها القاضي على رمل فيه تراب وأقرها بعض أصحابنا على ظاهرها ، لما روى أبو هريرة أن ناسا من أهل البادية أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا نكون بالرمال الأشهر الثلاثة والأربعة ويكون فينا الجنب والنفساء والحائض ولسنا نجد الماء فقال : " عليكم بالأرض ، ثم ضرب بيديه على الأرض لوجهه ضربة وضرب الأخرى فمسح يديه إلى المرفقين " رواه أحمد .

ووجه الأول : أن الله قال : ( فتيمموا صعيدا طيبا ) قال ابن عباس : " هو تراب الحرث " ولفظه فيما ذكر أحمد " أطيب الصعيد أرض الحرث " ، ومعنى أرض الحرث الأرض التي يكون فيها الشجر والزرع . قال أحمد : " السباخ لا تنبت والحجر لا ينبت والحرث ينبت " ، وعن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا [ ص: 448 ] كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، إذا لم نجد الماء " رواه مسلم .

فلما خص التربة بالذكر بعد تعميم الأرض بكونها مسجدا علم اختصاصها بالحكم ، وحديث الرمل ضعيف ؛ لأن فيه المثنى بن الصباح ، ثم إن صح فهو محمول على الرمال التي فيها تراب ، " لأنه جاء " بلفظ آخر " عليكم بالتراب " فيدل على الذي في الرمل إنما تيمم بالتراب لأن العرب عادتها أن تعزب إلى الأرض لها حشائش رطبة ، وإنما الحشائش الرطبة في الرمل الذي يخالطه التراب ، ولأن الرمل لا يلصق باليد فأشبه الحصاء ، ولأن طهارة الوضوء خصت بالنوع الذي " هو " أصل المائعات ، وكذلك التيمم يخص بالنوع " الذي " هو أصل الجامدات وهو التراب ، فأما الأرض السبخة فقد قال أحمد : " أرض الحرث أحب إلي وإن تيمم من أرض سبخة أجزأ " ، وقال أيضا : " من الناس من يتوقى السبخة لأنها تشبه الملح " ، وقال أيضا : " لا يعجبني التيمم بالسباخ لأنه لا يثبت في يده منه شيء يخرج منها إلى غيرها " فمن أصحابنا من جعلها كالرمل ، والمذهب أنها إذا كان لها غبار فهي كالتراب .

وإن لم يكن لها غبار فهي كالرمل ، وعلى هذا ينزل كلام أحمد ، فإن عدم التراب وجب عليه التيمم بالرمل والسبخة والنورة والكحل والزرنيخ والرماد ، [ ص: 449 ] وكل طاهر تصاعد على وجه الأرض ، في إحدى الروايتين ، اختارها ابن أبي موسى وغيره ، لقوله عليه السلام " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره " .

ويحمل حديث حذيفة على حال وجود التراب ، والأحاديث المطلقة على عدمه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلم لا يزال عنده مسجده وطهوره وقد يعدم التراب في أرض الرمال والسباخ وغيرها ، ولا إعادة عليه إذا وجد الماء أو التراب ، في أصح الروايتين ، كما لو عدم الماء والتراب وأولى ، وفي الأخرى : يعيد لأنه عذر نادر ، ويكون حكمه إذا وجد التراب كحكم التمسح بالتراب إذا وجد الماء . نص عليه .

والرواية الثانية : لا يتيمم إلا بالتراب ، اختارها الخلال وغيره ؛ لأن ما ليس بطهور مع وجود التراب لا يكون طهورا مع عدمه ، كالحشيش والملح المائي ، فإن خالط التراب ما ليس بطهور كالكحل والنورة والزرنيخ فخرجها القاضي على وجهين :

أحدهما ، وهو اختيار أبي الخطاب أن حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات ، إن لم تغيره لم تؤثر ، وإن غير اسمه وغلب على أجزائه منع ، وإن غير بعض صفاته فعلى روايتي الماء .

والثاني ، اختاره ابن عقيل وغيره : يمنع بكل حال لأنه ربما حصل في العضو فمنع وصول التراب إليه ، إلا أن يكون مما ليس له غبار يعلق " كا ...." ونخالة الذهب فلا يؤثر ما لم يمنع وصول غبار التراب إلى جميع اليد ، وإذا خالط الرمل التراب ، وقلنا : لا يجوز التيمم به ، فهل يمنع التيمم بالتراب ؟ على وجهين ذكرهما القاضي وغيره .

[ ص: 450 ] الشرط الثاني : أن يكون طاهرا لأن الله تعالى قال ( صعيدا طيبا ) والطيب هو الطاهر .

ووجه الأول : أن نزع الخفين والعمامة يبطل الوضوء فيبطل التيمم كسائر النواقض ، وهذا لأن الخف تتعدى إليه طهارة التيمم حكما كما تتعدى إلى سائر البدن ؛ لأن المسح على العضوين قائم مقام تطهير الأعضاء الأربعة ، فإذا كان عليه خفان فكأنه في الحكم مسح عليهما ، ولأن الحدث قائم بالرجلين وإنما استباح الصلاة بالتيمم مع سترهما ، إذا ظهرتا ظهر حكم الحدث فيحتاج إلى تيمم حتى لو تيمم قبل اللبس ثم خلع لم ينتقض تيممه . ويزيد التيمم على الماء بشيئين ؛ أحدهما : أن خروج الوقت يبطلها في المشهور لأنها طهارة ضرورة فتقدر بقدرها كطهارة المستحاضة ، وقيل لا تبطل إلا بدخول وقت الصلاة الثانية لأنه حينئذ يخاطب بتجديد التيمم ، فعلى هذا يصلي الضحى بتيمم الفجر وقد تقدمت الروايتان الأخريان .

الثاني : القدرة على استعمال الماء إما أن يجده إن كان عادما أو يقدر على استعماله إن كان مريضا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ؛ فإن ذلك خير " ، وقد تقدم ، ثم إن وجده قبل الصلاة بطل التيمم قولا واحدا ، وكذلك إن رأى ما يدل على الماء أو ظن وجود الماء فإنه يلزمه الطلب ويبطل تيممه في أحد الوجهين ، وإن وجده بعد الصلاة بطل أيضا فلا يصلي به صلاة أخرى ، وإن وجده في الصلاة بطل تيممه أيضا في ظاهر المذهب .

[ ص: 451 ] وكان قبل ذلك يقول : يمضي فيها ولا يبطلها ، فحمل الخلال وصاحبه المسألة قولا واحدا ؛ لأن الرجوع عنه وجوده كعدمه ، وأثبت ابن حامد وغيره المسألة على روايتين ؛ لأن القول الأول قاله باجتهاد فلا ينتقض باجتهاد ثان بخلاف نسخ الشارع ، وكذلك كل رواية علم الرجوع عنها ، وذلك لأن الصلاة حال لا يجب فيها استعماله كما بعد الفراغ ، ولأنه عمل صح بالبدل فلا يبطل بوجود المبدل عنه كحكم الحاكم بشهود الفرع لا يبطل بوجود شهود الأصل ، ولأنه وجد المبدل منه بعد الشروع في البدل ، فلم يجب الانتقال إليه كما لو وجد الأصل الهدي بعد الشروع في صوم المتمتع ، أو الرقبة بعد الشروع في صوم الكفارة ، ولأنه لا يتمكن من الوضوء إلا بإبطال الصلاة ، وذلك منهي عنه بقوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخيل إليه الحدث في الصلاة أن يخرج منها إلا باستيقان الحدث . فعلى هذا لو خرج منها لنجاسة أصابته أو غير ذلك ، لم يكن له أن يعيدها بذلك التيمم ؛ قولا واحدا ، فإن لم يجد من الماء إلا ما يكفيه لإزالة النجاسة أعاد التيمم ؛ لأن الأول قد بطل بطلب الماء ، ولو نوى الإقامة في الصلاة ثم رأى الماء لم تبطل الصلاة بناء على جواز التيمم في الحضر ، وإنه لا إعادة عليه ، قاله القاضي ، فعلى هذا إن قلنا : لا يتيمم في الحضر أو يعيد ، بطلت هنا لأنها غير معتد بها ، والأول أصح لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك " وقوله عليه السلام في الحديث " وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء " .

[ ص: 452 ] فجعله طهورا بشرط عدم الماء ، والحكم المشروط بشرط يزول بزواله ، وأمر بأن يمسه بشرته إذا وجده ، وهذا يعم المصلي وغيره ، ولو افترق الحكم لبينه ولأن ما أبطل الطهارة خارج الصلاة أبطلها في الصلاة كسائر النواقض ، وتقريب الشبه أن هذه طهارة ضرورة ، ورؤية الماء تبطلها خارج الصلاة ، فكذلك داخلها ، كانقطاع دم المستحاضة وانتهاء مدة المسح ، ولأنه قد بطل تيممه فلزمه الخروج من الصلاة ، كما لو كان مقيما أو نوى الإقامة ، والدليل على أن تيممه بطل مع قوله : " الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء " أنه لو مضى فيها ولم يفرغ حتى عدم الماء لم يجز له أن ينتقل حتى يتيمم ، مع قولنا : يمضي فيها ، على أشهر الوجهين ، وكذلك في المشهور : لا يجوز له أن يزيد على ركعتين في التنفل المطلق الذي لم ينوه عددا ، ولأن الطهارة بالماء فرض كان عاجزا عنه ، فإذا قدر عليه في الصلاة لزمه فعله ، كالعاري إذا وجد الثوب والمريض إذا قدر على القيام ، وأما كونه لا يجب فيها الطلب فإنما ذاك إذا شك في وجود الماء لأنه قد دخل في الصلاة بيقين فلا يخرج منها بشك ، كالذي يخيل إليه الحدث ، فأما إن رأى ما يدل على وجود الماء مثل ركب لا يخلون من ماء ونحو ذلك ، لزمه الطلب ، فإن وجد الماء وإلا استأنف التيمم . وشهود الفرع قد تم العمل المقصود بهم فنظيره هنا أن يجد الماء بعد الفراغ .

ونظير مسألة التيمم أن يقدر على شهود الفرع في أثناء كلمة الحكم فإنه لا ينفذ حكمه بهم ، وأما قولهم : وجد المبدل منه بعد الشروع في البدل هنا ، هو التيمم وليس هو الصلاة ، فلا يصح الوصف في الفرع ، وإن قالوا بعد الشروع في العمل بالبدل ، لم يصح الأصل .

وثانيها : أنه إذا شرع هنا في البدل وهو التيمم ثم وجد المبدل وهو الماء انتقل إجماعا .

[ ص: 453 ] وثالثها : إن وجود المبدل منه هنا يبطل البدل فلا يمكن إتمامه والاكتفاء به ، وهناك وجود الرقبة والهدي لا يبطل الصوم ، فأمكن إجزاؤه ، فنظير هذا بدل يفسد بوجود مبدله .

ورابعها : أنه منتقض بالصغيرة إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت في أثنائها لتنتقل إلى المبدل وهو الأقراء ، وهذا نص أحمد ، وإلحاق مسألتنا بهذا أولى لأن العدة والصلاة يبنى آخرهما على أولهما فتفسد بفساده بخلاف الصيام ، وأما إبطال الصلاة هنا فهو لم يبطلها وإنما بطلت بحكم الشرع ، كما لو سبقه الحدث أو وجد السترة يعيد منه ، ولو فرضنا أنه أبطلها لغرض صحيح ليأتي بها على وجه الكمال ، لم يكن ذلك محذورا ، فإذا قلنا : يخرج ، فإنه يستأنف الصلاة بعد وضوئه في المنصوص ، وخرج القاضي وغيره رواية : أنه يتطهر ويبني كما يقول فيمن سبقه الحدث على إحدى الروايتين ، وفرق آخرون بين هذا وبين من سبقه الحدث بأن هذا كان المانع موجودا حين ابتداء الصلاة ، وهو الحدث ، وإنما جازت الصلاة معه بالتيمم إذا كمل مقصوده ، وهنا لم يكمل المقصود فيبقى المانع بحاله ، بخلاف من سبقه الحدث ، وكذلك الطريقان في المستحاضة إذا انقطع دمها في أثناء الصلاة ، ومن ابتدأ الصلاة عاريا ثم وجد السترة يعيد منه ، وكذلك الماسح إذا انقضت مدته في أثناء الصلاة إن قلنا : المسح لا يرفع الحدث ، وإن قلنا : يرفعه ، فهو كالحدث السابق ، ولا فرق بين صلاة العيد والجنازة وغيرهما ، ويتخرج أن يبني في صلاة الجنازة وإن كان يخاف أنه إن خرج وتطهر فات الوقت وهو في السفر لم يخرج في أشهر الوجهين ، وإن كان في الحضر خرج كما لو كان خارج الصلاة ، ومن صلى بلا ماء ولا تراب ثم وجد أحدهما ، وقلنا : يمضي في التي قبلها ، فقيل : تبطل هنا لأنها صلاة بغير طهارة ، والصحيح أنا إن قلنا : لا يعيدها ، مضى فيها ، وإن قلنا : يعيدها ، قطعها ، كالمحبوس في المصر إذا وجد الماء في أثناء صلاته ، والمتيمم من البرد إذا قدر على الماء المسخن في أثناء صلاته ، وكذلك كل من تلزمه الإعادة فإنه يخرج ، ومن لا تلزمه فإنه يمضي . وإن يمم الميت ثم وجد الماء في أثناء [ ص: 454 ] الصلاة عليه فقيل : يقطع قولا واحدا ، وقيل : هي كالأولى ، وحيث جاز له المضي فهو واجب عليه في أحد الوجهين لأن إبطال الصلاة لا يجوز إلا لواجب .

وقال الشريف أبو جعفر : القطع أولى لما فيه من الاختلاف ، وكالمكفر إذا انتقل من الصوم إلى العتق ، وإذا خرج الوقت وهو في الصلاة بطل تيممه في أشهر الوجهين ، وكذلك لو خرج الوقت قبل أن يصليها لأن خروج الوقت مبطل للتيمم ، كالقدرة على استعمال " الماء " ، والآخر : لا تبطل ؛ بناء على أن التيمم لفعل الصلاة لا لوقتها وأنه يمضي فيها إذا شرع فيها بالتيمم ، ولو قدر على استعمال الماء في أثناء قراءة أو وطء أو لبث في المسجد ، أو مس مصحف ، قطعه ، قولا واحدا ؛ لأن بعضه لا يرتبط ببعض ، وإن كان في أثناء طواف فهو كالصلاة إلا أن نقول : الموالاة فيه ليست واجبة ، ومن لم يجد ماء ولا ترابا أو وجدهما وعجز عن الوضوء والتيمم إما لقروح ببدنه ، وإما لعجزه عن فعل الطهارتين وعدم من يطهره - فإنه يصلي على حسب حاله ؛ لما روت عائشة رضي الله عنها " أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في ظنها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه ، فأنزل الله تعالى آية التيمم " رواه الجماعة إلا الترمذي .

فصلوا بغير طهارة للضرورة ، فكذلك كل من عجز عن الطهارة ، ولأنه شرط من شرائط الصلاة ، فإذا عدم عجز عنه فعل ما يقدر عليه كسائر الشرائط ، فلا إعادة عليه في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى يعيد . اختارها [ ص: 455 ] القاضي بناء على العذر النادر وقد تقدم ، وبناء على أنه عجز عن الأصل والبدل فلم يسقط الفرض عنه ، كما لو عجز في الكفارات عن الأصول والأبدال . " أما " فعل ما لا يجب من قراءة أو وطء أو مس مصحف أو صلاة نافلة فلا يجوز إلا بطهارة ؛ لأنه لا حاجة إليه ، ولو قيل بجوازه لتوجه بناء على أن التحريم إنما ثبت مع إمكان الطهارة ، ولأن له أن يزيد في الصلاة على أداء الواجب على ظاهر قول أصحابنا حتى لو كان جنبا قرأ بأكثر من الفاتحة ، فكذلك فيما يستحب خارج الصلاة إذا اجتمع حي وميت كلاهما مفتقر إلى الغسل وهناك ماء مبذول لأولاهما به ، فالميت أولى به في أقوى الروايتين ، اختارها أبو بكر وغيره ، والحائض أولى به في أقوى الوجهين ، ومن عليه نجاسة أولى منهما ، وهو أولى من الميت في أحد الوجهين ، وإن قلنا : الميت أولى من الجنب ، والصحيح أن الميت أولى به بكل حال ؛ لأنه لا ترجى له الطهارة بالماء بعد ذلك ، وإن اجتمع جنب ومحدث والماء يكفي المحدث ولا يفضل منه شيء دون الجنب فهو أولى ، " وإن كان يكفي الجنب لصغر خلقه " ولا يفضل منه شيء أو لا يكفي واحدا منهما أو يكفي المحدث وحده ويفضل منه شيء ، فالجنب أولى ؛ لأن حدثه أغلظ وهو محتاج إلى استعمال الماء كله ، وإن كان يكفي كلا منهما وحده ويفضل منه شيء فهل يقدم المحدث أو الجنب ، أو يتساويان بحيث يقرع الباذل بينهما ، أو يعطيه لمن شاء ؟ على ثلاثة أوجه ، فأما إن كان ملكا لأحد هؤلاء فهو أولى به ، وإن اشتركا اقتسموه واستعمل كل واحد نصيبه ؛ لأنه لا يلزم الرجل بذل ما يحتاج للطهارة لطهارة غيره ، وإن كان الماء مباحا فهو كالمبذول ؛ لأنه " متى وجده أحدهم كان أحوج إليه بمنزلة " المضطر وغيره [ ص: 456 ] إذا وجد فاكهة مباحة ، وقيل : لا حظ فيه للميت لأنه لا يجد شيئا وإنما يجده الأحياء ، والأول أوجه ؛ لأن تغسيل الميت أوجب على الأحياء ، فإذا وجدوه كان صرفه إلى ما وجب عليهم للميت أولى ، ولأنهم يستفيدون بذلك الصلاة عليه ، ولو بادر المجروح فتطهر به أساء ، وصحت طهارته ، بخلاف الماء المغصوب لأنه لم يملكه أحد ، هكذا ذكر كثير من أصحابنا وحملوا مطلق كلام أحمد رضي الله عنه على ذلك ، وقد قال الإمام أحمد في قوم في سفر ومعهم من الماء ما يشربون ومعهم ما يغتسل " به " وقد أصابت رجلا منهم جنابة ومعهم ميت : " أعجب إلي أن يغسل الميت ويتيمم الجنب " فهؤلاء قوم مشتركون في الماء ، وقد يقدم الميت وهو إما أن يكون له نصيب في الماء أو لا يكون له شيء ، وقد قدمه بنصيب الأحياء حتى بنصيب الجنب وهو في نفس هذه المسألة قدم الجنب في رواية أخرى ، وهذا فيما إذا كان الماء مشتركا ؛ لأن نصيب كل واحد لا يكفيه لطهوره ، ولا يستبيح به شيئا بل لا بد من تيممه ، فكان تخصيص واحد بالماء وآخر بالتيمم أولى من تيمم كل واحد وتشقيص طهارته . ألا ترى أن الشرع قد حكم فيما إذا أعتق شقص من عبيد أن يجمع الحرية كلها في شخص واحد والرق في آخر ، لمصلحة تخليص الحرية والملك ، وإن كان فيه إسقاط حق المشترك من الحرية ، وقال أيضا فيمن معه ماء بأرض فلاة وهو جنب ومعه ميت ، إن هو اغتسل بالماء بقي الميت ، وإن غسل الميت بقي هو ، قال : " ما أدري ، ما سمعت في هذا شيئا " وتوقفه هنا يخرج على الروايتين هناك ، وظاهر الرواية أن الميت لا شيء له في الماء ، ووجهه هذا أن تغسيل الميت واجب على الحي من الماء ، الذي يملكه كما يجب اغتساله ، بخلاف الحيين ، وهذا أيضا دلالة على المسألة الأولى .



التالي السابق


الخدمات العلمية