الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة

" وكذلك حكم من به سلس البول ومن في معناه "

يعني كل من به حدث دائم لا ينقطع قدر ما يتوضأ ويصلي كسلس البول والمذي والريح والجرح الذي لا يرقأ والرعاف الدائم . قال : هؤلاء يتوضئون لكل صلاة ، ويمنعون الحدث بقدر الطاقة ، ثم من كان حدثه بخروج نجاسة ، وجب تطهيرها إن أمكن كالجريح . ومن لم يمكنه أن يعصب على جرحه عصابا ، لم يكن عليه شيء ، فإن عمر رضي الله عنه " صلى وجرحه يثغب دما " .

[ ص: 495 ] ولأن هذا حدث دائم ، فأشبه المستحاضة ، وينقض طهارتهم ما ينقض طهارة غيرهم سوى الحدث الدائم مثل أن يبول أحدهم أو يمس ذكره ؛ لأنه في هذا الحدث بمنزلة الصحيح ، فأما الحدث الدائم فإن كان متواصلا أو يقطع تارات لا يتسع الوضوء والصلاة - لم تبطل الطهارة كما تقدم ؛ لأنه لو أبطل الطهارة مطلقا لما أمكنت الصلاة معه ، وإن انقطع قدرا يتسع الوضوء والصلاة فهو على قسمين :

أحدهما : أن ينقطع عن برء بأن لا يعود بعد ذلك ، فيتبين بهذا الانقطاع بطلان طهارته ؛ لأن الحدث الخارج قبل الانقطاع كان مبطلا للطهارة ، وإنما عفي عنه للضرورة ، فمتى زالت الضرورة ظهر أثره ، وكذلك الحدث القائم ببدن المتيمم ، فإن انقطع ولم تعلم هل هو عن برء أو غير برء - لم يحكم بأنه برء ؛ لأن الأصل عدم البرء ، وبقي بلا سبب الاستحاضة ، فإن لم يعد وتبين أنه كان عن برء حكمنا ببطلان كل صلاة صلتها بعد هذا الانقطاع ، إذا كان قد وجد قبله حدث بعد الطهارة ؛ لأنا تبينا أنها صلت بعد انتقاض وضوئها انتقاضا يوجب الوضوء ، وأقصى ما فيها أنها جاهلة بالحدث ، ولا فرق في بطلان الصلاة بين العالم بالحدث والجاهل به ، نعم إن كان صاحب هذا الحدث إماما فهو كمن أم قوما ناسيا لحدثه أو جاهلا به ، وإن كان هذا الانقطاع في الصلاة فهو على الطريقين الذين يذكران فيما بعد .

الثاني : أن ينقطع عن غير برء ، بل ينقطع ويعود ، فإن كان زمن هذا الانقطاع معلوما ، وقد صار عادة لزمها أن تتحرى وتتطهر وتصلي فيه ، ومتى انقطع على هذا الوجه بطلت طهارتها ؛ لأنها أمكنها الصلاة بطهارة صحيحة من غير مشقة ، فأما إن عرض هذا الانقطاع لمن عادته اتصال الحدث ، فكذلك في أحد الوجهين ، ذكرهما الآمدي وغيره ، وهو الصحيح عند كثير من أصحابنا ، منهم القاضي وابن عقيل ؛ لأن الضرورة زالت به ، فيظهر حكم الحدث كالمتيمم إذا رأى الماء ، سواء وجد هذا الانقطاع في الصلاة أو خارجها ؛ لأن ما كان حدثا خارج الصلاة كان حدثا فيها ، وقد خرجها ابن حامد وغيره على روايتي المتيمم إذا رأى الماء ، وأبى غيره التخريج ؛ لأن الحدث هنا قد وجد بعد الطهارة ، ولم يوجد عنه بدل يبنى على حكمه ، وقد قدر على شرط العبادة فيها ، فأشبه العاري إذا وجد [ ص: 496 ] السترة ، والمصلي بالنجاسة إذا قدر على إزالتها في الصلاة ، لا سيما وهنا مبطلان : بطلان طهارة الحدث ، وحمل النجاسة . وإذا خرج وتطهر فإنه يستأنف ، وقد خرج القاضي وجها وغيره : أنه يبني ، كما خرجه في التيمم ، ثم إذا انقطع ولم يعلم هل هو انقطاع متسع أو غير متسع - لم يحكم ببطلان الوضوء حتى يمضي زمن يمكن فيه الوضوء والصلاة ؛ لأن الانقطاع الذي يوجب الطهارة مشكوك فيه ، ولا يجوز له أن يصلي به لاحتمال دوامه واستمراره ، وليست هنا طهارة متيقنة ؛ لأن الحدث وجد بعدها ، والمسوغ الصلاة معه وهو دوامه مشكوك فيه ، فأشبه المتيمم إذا شك في عدم الماء قبل الدخول في الصلاة لم يجز له أن يصلي حتى يستبرئ ، فإن خاف وصلى واتسع الانقطاع تبينا بطلان صلاته لبطلان طهارته ، وإن لم يتسع الانقطاع فالطهارة بحالها ، وكذلك الصلاة ؛ لأنا تبينا أنها وقعت بطهارة في أحد الوجهين ، وفي الآخر : لا يصح ، وهو أقيس ؛ لأنه شرع في الصلاة مع المخالفة ، فلم يصح وإن أصاب ، كمن شك في الطهارة فصلى ثم تيقن الطهارة ، وماسح الخف إذا شك في انقضاء المدة ثم صلى ثم تبين بقاؤها ، وكذلك لو صلى إلى القبلة بلا اجتهاد ولا تقليد ثم تيقن أنه أصاب أو حكم الحاكم أو أفتى المفتي أو قال في القرآن أو شهد الشاهد بغير الطريق المشروع ، وتبين أنه أصاب ، وإن كان الانقطاع في الصلاة قطعها بمجرده في أشهر الوجهين كما منع من ابتدأ الصلاة معه ، فإن أتمها واتسع زمن الانقطاع تبينا بطلانها ، وإلا خرج فيها الوجهان ، والأظهر أنه يتمها هنا لأن الانقطاع محتمل أن يكون متسعا ، ويحتمل أن يكون ضيقا ، فلا تبطل به الصلاة المتيقنة ، كالمتيمم إذا طلع عليه ركب وهو في الصلاة ولم يعلم أن معهم ماء ، ولو كان لها عادة بانقطاع ضيق ، فاتسع الانقطاع ، فهو كما لو عرض الانقطاع المتسع ابتداء ، لكن إذا تطهرت هنا كانت الطهارة صحيحة في نفسها ، فلو لبست عليها خفا كانت قد لبسته على طهارة صحيحة ، حتى لو عاد الدم بعد ذلك ثم انقطع انقطاعا متسعا كان لها المسح ، بخلاف ما لو جرى الدم قبل اللبس ثم انقطع الانقطاع المعتبر ، فإنا نتبين أنه ملبوس على حدث ، هذا كله إذا عرض الانقطاع ، فأما إن كثر الانقطاع واختلف ولم يكن له وقت معلوم [ ص: 497 ] وقدر معلوم يبنى عليه ، فيصير مثل العادة ، بل تقدم تارة وتأخر أخرى ، وضاق مرة واتسع أخرى ، ووجد مرة ، وعدم أخرى ، فكذلك أيضا عند كثير من أصحابنا إلا أنه إذا وجد لم يمنع من الدخول في الصلاة معه ولا المضي فيها ، حتى يتبين أنه متسع ؛ لأنها قد ألغت الانقطاعين من الطويل والقصير ، فليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ، ولأن الانقطاع الضيق قد صار عادة ، فأشبه ما لو لم تعد غيره .

الوجه الثاني : أن هذا الانقطاع لا يبطل مطلقا ، وقال أحمد بن القاسم : سألت أبا عبد الله ، فقلت : إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويوقتون بوقت يقولون : إذا توضأت للصلاة وقد انقطع الدم ثم سال بعد ذلك قبل أن تدخل في الصلاة - تعيد الوضوء ، ويقولون : إذا كان الدم سائلا فتوضأت ثم انقطع الدم - قولا آخر ، قال : " لست أنظر في انقطاعه حين توضأت سال الدم أم لم يسل ، إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى " . فقد نص على أن الانقطاع حين الوضوء لا عبرة به ، ولم يفرق بين طويله وقصيره ، وأنه سال بعده دم أو لم يسل .

ومقتضى هذا أنه إذا انقطع طويلا فتوضأت فيه ولم تصل حتى سال الدم فطهارتها باقية ، وإن اتسع الانقطاع - وأن السائل بعد ذلك لا ينقض الوضوء حتى يخرج الوقت ، سواء انقطع بعد ذلك أو لم ينقطع ، وأنه لا فرق بين وضوئها ، وهو منقطع أو هو سائل ، ولو كان الانقطاع قد نقض الطهارة الماضية لكان الوضوء فيه واجبا بخلاف السيلان ، فاختلف أصحابنا في [ ص: 498 ] هذا الكلام بعد اتفاقهم على أن ظاهره أن انقطاع الحدث لا يبطل الطهارة ، فتأوله القاضي على الانقطاع القليل المعتاد ، ومنهم من أقره على ظاهره وهم أهل الوجه الثاني ، لكن منهم من قال : لا أثر لهذا الانقطاع العارض أو المختلف المعتاد ، وأن طهارتها صحيحة ما لم ينقطع انقطاع برء أو يخرج الوقت ، إلا أن يكون وقت الانقطاع معلوما واسعا كما تقدم ، قال أبو الحسن الآمدي : وهو الظاهر ، وهو اختيار الشيخ صاحب الكتاب ، ومنهم من قال : أما الانقطاع للعارض فإنها تفعل فيه كما تقدم ، وأما المتكرر والمختلف فإنها لا تلتفت إليه ، وهذه الطريقة في الجملة أشبه بكلام أحمد وأشبه بالسنة ، فإن الحكم لو اختلف بهذا الانقطاع وجودا وعدما لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضات ، فإنه يعرض كثيرا لهن ، ثم تكليفها كلما انقطع الدم لحظة أن تنظر هل يعود بعد مدة متسعة أو ضيقة ، فيه مشقة عظيمة ، ثم فيه تقدير الطهارة بالفعل الذي لا ينضبط ، وإن قولهم : " قدر ما يسع الوضوء والصلاة " يختلف ذلك باختلاف بعد الماء من المتوضئ وقربه وسرعته وبطائه ونشاطه وكسله ، وكذلك الصلاة ، ثم بماذا يقدرون هذا الوضوء والصلاة ؟ بأقل ما يجزئ من المتوضئ مرة مرة ، والاقتصار على الفاتحة وتسبيحة واحدة في الركوع والسجود ، أم بالوضوء والصلاة الكاملتين ؟ فإن كان الأول فنحن نجوز لها مع قيام الدم أن تصلي صلاة كاملة ، فلأن يجوز ذلك إذا انقطع وخشيت عوده ، بطريق الأولى ، فكذلك الثاني ، فإنه يجوز لها تطويل الأولى ، ثم لو كان إذا انقطع الدم وجب عليها الوضوء والصلاة به ولم يتسع الوقت للقدر المجزئ لما جاء تكميل الوضوء والصلاة ، كمن خشي أنه إن توضأ ثلاثا وصلى صلاة كاملة خرج الوقت ، لم يجز أن يصليها ، ثم إنها لا [ ص: 499 ] تعلم قدر الزمان إلا بمضيه ، وحينئذ يفوت المقصود ، فكيف تكلفه ، وإن وجب عليها الوضوء ثانيا فلا فائدة فيه لقيام الحدث معه ، وهي لا تنسب في ذلك إلى تفريط ، ثم تقدير الزمان بفعل قليل للواحد ، إنما يعلم بحزر وفرض ، وذلك يختلف باختلاف آراء الناس ، ومواقيت العبادات حدود لله لا يجوز تعديها ، فكيف يفوض إلى الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية