الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 132 ] ( فصل )

وينبني على ذلك أنه إذا بذل له ابنه أو غيره مالا يحج به ، أو بذل له ابنه أو غيره طاعته في الحج عنه ، وكان المبذول له معضوبا ، أو غير معضوب لم يلزمه عند أكثر أصحابنا مثل ابن حامد والقاضي وأصحابه ، وهو مقتضى كلام أحمد ، فإنه علق الوجوب بوجود الزاد والراحلة .

وقال القاضي أبو يعلى الصغير ابن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي [ ص: 133 ] يعلى : قياس المذهب أن الاستطاعة تثبت ببذل الابن الطاعة أو المال ، ولا تثبت ببذل غيره المال ، وهل تثبت ببذل غيره الطاعة ؟ خرجها على وجهين ؛ لأن من أصلنا أن الاستطاعة على ضربين : تارة بنفسه ، وتارة بنائبه ، والمال الذي يأخذه النائب ليس أجرة عندنا في أشهر الروايتين ، وإنما هو نفقة ، فيكون قد بذل عمله للمستنيب ، وقد قال أحمد - في رواية حنبل - : لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج عن أبيه ، عن أمه ، عن أخيه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم- للذي سأله : ( إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال : نعم ) . 50 والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف ، إنما الحج عمن له زاد وراحلة ولا يسرف ، ولا يقتر ، ولا يمشي إذا كان ورثته صغارا .

[ ص: 134 ] وقال - في رواية أبي طالب - : إذا كان شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه . فقد بين أن النائب متبرع بعمله عن الميت ، مع أن الحج واجب على الميت .

وأيضا من أصلنا أن مال الابن مباح للأب يأخذ منه ما شاء ، مع عدم الحاجة ، فإذا بذل له الابن فقد يؤكد الأخذ .

وقول أحمد : إذا وجد الزاد والراحلة : يجوز أن يراد بالموجود المملوك والمباح ، لقوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء ) ولعل كلامه فيمن يجب عليه الحج بنفسه .

قال القاضي أبو يعلى : وأصل هذا أن الاستطاعة تحصل بالمال المباح ، كما تحصل بالمال المملوك ، قال : ولو بذل له الرقبة في الكفارة : لم يجز له الصيام ، فعلى هذا لو وجد كنزا عاديا ونحوه وجب عليه أن يأخذ منه ما [ ص: 135 ] يحج به ، ولو عرض عليه السلطان حقه من بيت المال ...

ولو لم يبذل له الابن فهل يجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج ؟ فإن الجواز لا شك فيه عندنا ، وذلك لما روى عبد الله بن عباس ، عن الفضل بن عباس أن امرأة من خثعم قالت : ( يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير ، عليه فريضة الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم- : فحجي عنه ) رواه الجماعة ، إلا أبا داود ، والترمذي وهو ... .

وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم- بعرفة ، وذكر الحديث إلى أن قال : ثم أتته امرأة شابة من خثعم ، فقالت : ( إن أبي شيخ كبير قد أفند ، وقد أدركته فريضة الله في الحج ، فهل يجزي أن أحج عنه ؟ قال : نعم ، فأدي عن أبيك ) ، قال : ولوى عنق الفضل ، فقال له العباس : يا رسول الله ، ما لك لويت عنق ابن عمك ؟ قال : رأيت شابا وشابة فخفت الشيطان عليهما ، وفي لفظ : ( فهل يجزي عنه أن أؤدي عنه ؟ قال : نعم ، فأدي عن أبيك ) وفي لفظ : ( إن أبي كبير وقد أفند ، وأدركته فريضة الله في الحج ، ولا يستطيع أداءها فيجزي عنه أن أؤديها ؟ قال : نعم . ) رواه في حديث طويل أحمد ، [ ص: 136 ] والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه ، وقد روى بعض الحديث الطويل أبو داود ، وابن ماجه ، وقد تقدم أيضا حديث أبي رزين العقيلي لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : حج عن أبيك واعتمر ) . رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وقد احتج به أحمد وغيره على وجوب العمرة .

وعن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قال : جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير ، لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه أفأحج عنه ؟ قال : أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه ، أكان ذلك يجزي عنه ؟ قال : نعم ، قال : فحج عنه ) . رواه أحمد ، والنسائي .

فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء السؤال على أن المعضوب عليه فريضة الله في الحج ، وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم- بفعلها عنه ، وشبهها بالدين ، ولم يستفصل هل له مال يحج به أو ليس له مال ، وترك الاستفصال دليل على عموم الجواب لا سيما والأصل عدم المال ، بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج ، فدل [ ص: 137 ] ذلك على أن بذل الابن موجب ، وإنما أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج .

وأيضا فإن الاستطاعة تحصل بالمباح كما تحصل بالمملوك ، ويحصل به الوجوب ، كما يحصل بالمملوك بدليل أن الوضوء يجب بالماء المبذول والمباح ، والصلاة تجب في السترة المعارة ، فيجب أن يحصل الحج أيضا - بالاستطاعة المبذولة من مال أو عمل . نعم ما عليه فيه منة لا يبذل بذلا مطلقا ، لكن الغالب أنه لا بد أن يطلب منه باذله نوع عوض ، ولو بالثناء أو الدعاء ، ويحصل عليه به منة فلا يجب عليه قبوله ، كما لو بذلت السترة ملكا ، أو بذل له أجنبي مالا يحج به ، أو يكفر به .

وبذل الابن ليس فيه منة ، ولا عوض بل هو من كسبه وعمله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ) .

[ ص: 138 ] وقال : ( أنت ومالك لأبيك ) ، وكذلك دعاء الابن بعد موته من جملة عمله ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) . فكيف لا يجب عليه أن يحج مع بذل الابن له ذلك ؟ ولا مؤنة عليه فيه أصلا . وطرد هذا أنه يجب على الأب أن يقبل من مال ابنه ما يؤدي به دينه ، بل ينبغي أن يكون هذا مسلما بلا خلاف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين ، فعلى هذا يشترط في الباذل ... .

ووجه الأول : أن الله - سبحانه - قال : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) ، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - السبيل : بأنه الزاد والراحلة ، وفي لفظ : سئل : ما يوجب الحج ؟ قال : ( الزاد والراحلة ) ، وفي لفظ : ( من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله - تعالى - ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا ) . فعلم بذلك أن الحج لا يوجبه إلا ملك الزاد والراحلة .

[ ص: 139 ] فإن قيل : قوله : ( ما يوجب الحج ؟ ) يعني : حج المرء بنفسه ، ولم يتعرض لحج غيره عنه ، ولم يفرق في الزاد والراحلة بين أن تكون مملوكة أو مباحة ، وإنما قال : ( الزاد والراحلة ) أي : وجود ذلك يعم ما وجد مباحا ومملوكا بدليل قوله في آية الوضوء : ( فلم تجدوا ماء ) .

وأيضا فإن الاستطاعة صفة المستطيع ، فلا بد أن يكون قادرا على الحج ، وهو لا يصير قادرا ببذل غيره لجواز أن يرجع الباذل ، وذلك أن شرط وجوب العبادة لا بد أن يستمر إلى حين انقضائها ، فإن أوجب على الباذل التزام ما بذل : صار الوعد فرضا ، وإن لم يجب فكيف يجب فرع لم يجب أصله ؟

وأيضا فإن في إيجاب قبول بذل الغير عليه ضررا عليه ؛ لأن ذلك قد يفضي إلى المنة عليه ، وطلب العوض منه ، وإن كان الباذل ولدا فإنه قد يقول الولد : أنا لا يجب علي أن أحج عنك ، ولا أن أعطيك ما تحج به ، ومن فعل مع غيره من الإحسان ما لا يجب عليه فإنه في مظنة أن يمن به عليه ، وأيضا ... .

وأما حديث الخثعمية ، وأبي رزين ونحوهما : فهو صريح بأن الوجوب كان قد ثبت واستقر قبل استفتاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستفتاؤه متقدم على بذل الولد الطاعة في الحج ؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الحج يجزئ عن العاجز حتى استفتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يبذلون الحج عن الغير وهم لا يعلمون جواز ذلك ؟ فإذا كانوا إنما بذلوا الحج عن الوالد بعد الفتوى ، والوجوب متقدم على الفتوى : علم أن هذا البذل لم يكن هو الموجب للحج ، ولا شرط في وجوبه ؛ لأن [ ص: 140 ] الشرط لا يتأخر عن حكمه ، وصار هذا كما روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال : ( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء ) . رواه البخاري . وكذلك حديث بريدة في التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أمي كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها ) . رواه مسلم إلى غير ذلك . وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 141 ] بالدين ، ولم يكن البذل هو المقرر للوجوب .

وأيضا فإن القوم إنما سألوه عن إجزاء الحج عن المعضوب ، وعنه وقع الجواب ، ولم يتعرض للوجوب بنفي ولا إثبات . وباتفاق لا يجب على الباذل أن يحج .

ونحن إنما استدللنا بحديث أبي رزين على وجوب العمرة ؛ لأنه استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أداء ما وجب على أبيه ؛ لتبرأ ذمة الأب ، فأمره أن يحج عنه ويعتمر ، فعلم أن كلاهما كان واجبا على الأب ، وإلا لم يحتج أن يأمره [ به كما لم يأمره ] بتكرار الحج والطواف ، فعند هذا يكون قول السائل : عليه فريضة الله في الحج إذا أدركته فريضة الله ، ونحو ذلك كان لملكه الزاد والراحلة ، وقد بلغ هؤلاء أن من ملك الزاد والراحلة فعليه فريضة الله في الحج ، ولم يعلموا حكم العاجز عن الركوب أيسقط عنه أم يتجشم المشاق ، وإن أضر به وهلك في الطريق ، أم يستخلف من يحج عنه ؟ ولهذا جزمت السائلة فقالت : إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج ، وقال الآخر : أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه ، ولن يقول هذا إلا من قد علم أنه مكتوب عليه وواجب . فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج عن الآباء ، ولم يستفصلهم هل ملكوا مالا أم لا لوجهين :

أحدهما : أنهم إنما سألوه عن جواز النيابة وإسقاطها فرض حجة الإسلام ، وهذا لا يختلف الحال فيه بين الواجد والمعدم ، فلم يكن للاستفصال وجه . وكل معضوب إذا حج عنه غيره بإذنه أسقط عنه الفرض ، حتى لو ملك بعد هذا مالا لم يجب عليه حجة أخرى ، وشبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدين في جواز الأداء عن الغير . فإن من عليه دين وهو قادر على [ ص: 142 ] وفائه من ماله ، أو عاجز عنه إذا أداه غيره عنه بإذنه جاز ، كذلك الحج .

والثاني : أن يكون قد علم أن الحج وجب على الآباء بملك المال ، إما بعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأن أماكن أولئك السوال قريبة ، وأن غالب العرب لا يعدم أحدهم بعيرا يركبه ، وزادا يبلغه ، أو لأنه رأى جزم السائلين بالوجوب ، مخصصين لهؤلاء من دون غيرهم من المسلمين ، فعلم أنهم إنما جزموا لوجود المال الذي تقدم بيانه أنه هو السبيل ، أو لغير ذلك من الأسباب .

ويجوز أن يكون السوال عنوا بقوله : - أدركته فريضة الله في الحج ، وعليه فريضة الله في الحج ، والحج مكتوب عليه - : الوجوب العام ، وهو أن الحج أحد أركان الإسلام وقد أوجبه الله - سبحانه - على كل مسلم حر عاقل بالغ ، وهو مخاطب به سواء كان قادرا أو عاجزا ، ولهذا لو فعله ، أو فعل عنه أجزأه ذلك من حجة الإسلام ، وإنما سقط عن غير المستطيع السير للعذر ، لا لكونه ليس من أهل الوجوب ، بخلاف الصبي والعبد والمجنون ، فإنهم ليسوا من أهل الوجوب ؛ ولهذا يفرق في الجمعة والحج وغيرهما بين أهل الأعذار في كونهم من أهل وجوب هذه العبادة ، وإنما سقط عنهم السعي إليها للمشقة والعذر ؛ ولهذا إذا حضروا وجبت عليهم ، وانعقدت بهم ، وبين العبد [ ص: 143 ] والمسافر والمرأة ونحوهم في كونهم ليسوا من أهل الوجوب ؛ ولهذا إذا حضروا لم تجب عليهم ، ولا تنعقد بهم .

وسبب الفرق بين القسمين : أن الوجوب يعتمد كمال الفاعل الذي به يستعد لحمل الأمانة ، ويعتمد إمكان الفعل الذي به يمكن أداؤها ، فإذا لم يكن الإنسان من أهل الكمال لنقص عقله أو سنه أو حريته ونحو ذلك لم يخاطب بذلك الوجوب أصلا ، وليس عليه أن ينظر هل يفعل أو لا يفعل ، ولو فعل لم يحصل به المقصود ، وإذا كان كاملا تأهل للخطاب ، وكان عليه أن يعزم على الأداء إذا قدر ، وأن ينظر في نفسه هل هو قادر أو عاجز ، ولو تجشم وفعل لحصل المقصود ، فالمعضوب من هذا القسم .

فقول السائل : أدركته فريضة الله في الحج : يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب ، لكن هو عاجز عن الأداء ، فإن استناب فهل يقوم فعل النائب مقام فعله ، بحيث يكون بمنزلة من فعل أم لا يصح ذلك ، فيبقى غير فاعل ؟ وهذه طريقة مشهورة في الكلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية