الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 194 ] ( فصل )

يجب الحج عن الميت والعاجز من حيث وجب عليه ، قال القاضي : يلزمهم أن يحجوا عنه من دويرة أهله ، وهو الموضع الذي ملك فيه الزاد ، والراحلة ، سواء كان هو وطنه ، أو لم يكن ، وسواء مات فيه ، أو في غيره ، ثم إن مات في بلد الوجوب حج عنه من ذلك البلد ، وإن مات في بلد أبعد عن مكة منه ، أو هو في جهة غير جهة بلد الوجوب : حج عنه من بلد الوجوب ولم يجب أن يحج عنه من بلد الموت ، وإن مات ببلد أقرب إلى مكة من بلد الوجوب : وجب أن يحج عنه من بلد الوجوب أيضا ، إلا أن يكون قد مات قاصدا الحج .

قال في رواية الأثرم : يحج عنه من حيث وجب عليه من حيث أيسر ، قيل له : فرجل من أهل بغداد خرج إلى خراسان فأيسر ، ثم تحج عنه من حيث أيسر ، فذكر له أن رجلا قال : يحج عنه من الميقات ، فأنكره .

قيل له : فرجل من أهل خراسان ، أو من أهل بغداد خرج إلى البصرة ، ومات بها ، قال : يحج عنه من حيث وجب عليه .

وقال - في رواية أبي داود - : رجل من أهل الري وجب عليه الحج ببغداد ، ومات بنيسابور نحج عنه من بغداد ... .

[ ص: 195 ] وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحج الذي عليه دينا ، وأمر الوارث أن يفعله عنه كما يفعل الدين ، وقد كان عليه أن يحج من دويرة أهله فكذلك من يحج عنه .

ولأن الحجة التي ينشئها من دويرة أهله أفضل ، وأتم من التي ينشئها من دون ذلك بدليل قوله - سبحانه - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) قال علي - رضي الله عنه - : ( إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك ) ، يعني أن تنشئ لها سفرا من دويرة أهلك ، فإذا مات فقد استقرت في ذمته على صفة تامة فلا يجزئ أن يفعلها بدون تلك الصفة ؛ ولأنها مسافة وجب قطعها في حال الحياة فوجب قطعها بعد الموت ، كالمسافة من الميقات ، وهذا لأنه لو كان مجرد الحج كافيا لأجزأ الحج عنه من مكة لأنها حجة تامة .

ولأن قطع المسافة في الحج أمر مقصود ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ذلك جهادا، فقال : ( الحج جهاد كل ضعيف ) . وقال للنساء : ( عليكن جهاد لا قتال فيه ؛ الحج والعمرة ) . ولهذا كان ركن الوجوب الزاد والراحلة : هو المال فيجب الحج بوجوده ، وينتفي الوجوب بعدمه .

ومعلوم أن المال لا يحتاج إليه في أفعال الحج ، فإن أكثر المواقيت بينها وبين مكة دون مسافة القصر ، وذلك القدر لا يعتبر له راحلة ، ولا ملك زاد أيضا ، ولهذا [ ص: 196 ] ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ) ، ولم يذكر مثل هذا في المصلي ونحوه ؛ لأنه ليس المال من خصائصه .

فلو جاز أن يحج عنه من دون الميقات لسقط ما يعتبر له المال من قطع المسافة .

وأيضا : فإن النائب يجب أن يحج من حيث وجب على المنوب عنه كالمعضوب فإنه لا بد أن يحج عنه من دويرة أهله ، والميت مثله لأنهما في المعنى سواء .

فإن قيل : فهذا الميت والمعضوب لو قطع هذه المسافة لغير الحج ، ثم أراد إنشاء الحج لم يجب عليه أن يرجع إلى دويرة أهله .

قلنا : وكذلك لو جاوز الميقات غير مريد لمكة ، ثم عرض له قصدها جاز [ ص: 197 ] أن يحرم من موضعه ، وإن لم يجز له ابتداء أن يجاوز إلا محرما .

ولأن من حج بنفسه يسقط عنه الفرض بنفس أداء المناسك على أي صفة كان بخلاف من حج من غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية