الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 327 ] ( فصل )

وأما المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل سواء في ذلك أهل البلد وغيرهم ممن هو في الحرم ، قال أحمد - في رواية الميموني - ليس على أهل مكة عمرة ، وإنما العمرة لغيرهم ، قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) إلا أن ابن عباس قال : " يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر " .

وإذا أراد المكي وغيره العمرة : أهل من الحل ، وأدناه من التنعيم ، وقال أيضا : " ليس على أهل مكة عمرة ؛ لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم وتجاوز الحرم " وذلك لما روت عائشة قالت : " لما خرجت معه - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال : اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هاهنا ، فخرجنا فأهللت ثم طفت بالبيت ، وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في منزله في جوف الليل ، فقال : هل فرغت ، قلت : نعم ، فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى [ ص: 328 ] المدينة " [ متفق عليه وفي رواية ] متفق عليها من حديث القاسم والأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد ، قال : انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم ، فأهلي منه ، ثم ائتينا بمكان كذا وكذا ، ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " وفي لفظ متفق عليه : " فلما كانت ليلة الحصبة قالت : قلت : يا رسول الله ، يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة ، قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة ، قالت : قلت : لا ، قال : فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ، ثم موعدك مكان كذا وكذا " متفق عليه .

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال : " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أردف عائشة ، وأعمرها من التنعيم " متفق عليه ، [ ص: 329 ] وعن ابن سيرين قال : " وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة التنعيم " رواه أبو داود في مراسيله ، وعن ابن عباس ... .

فقد تبين : أن العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل ، قال أصحابنا وغيرهم : لأنه لا بد في النسك من الجمع بين الحل والحرم ، وأفعال العمرة هي في الحرم ، فلو أحرم بالعمرة من الحرم لما وقع شيء منها في الحل ، بخلاف الحج فإن أحد ركنيه وهو الوقوف بعرفة يقع في الحل لأن عرفات من الحل ، وذلك لأن العمرة هي الزيارة ، ومنه العمرة ، وهو أن يبني الرجل بامرأته في أهلها ، فإن نقلها إلى أهله فهو العرس قاله ابن الأعرابي .

والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور وإنما تكون إذا كان خارجا منه فجاء [ ص: 330 ] إليه ليزوره ، ولهذا - والله أعلم - لم يكن على أهل مكة عمرة لأنهم مقيمون بالبيت على الدوام .

وأيضا : فإن العمرة هي الحج الأصغر ، والحج أن يقصد المحجوج في بيته ، والحرم هو فناء بيت الله فمن لم يقصد الحرم من الحل لم يتحقق معنى الحج في حقه إذ هو لم ينزح من داره ، ولم يقصد المحجوج .

والإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه ، وكلما تباعد فيها فهو أفضل حتى يصير إلى الميقات .

قال أحمد في رواية الحسن بن محمد ، وقد سئل من أين يعتمر الرجل ؟ قال : يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي كما فعل ابن عمر وابن الزبير وعائشة رضوان الله عليهم أحرموا من المواقيت ، فإن أحرم من التنعيم فهو عمرة وذاك أفضل ، والعمرة على قدر تعبها .

والعمرة كلما تباعد فيها أعظم للأجر ، وهو على قدر تعبها وإن دخل في شعبان ، أو رمضان فإن شاء أن يعتمر اعتمر .

وقال عبد الله : سألت أبي عن عمرة المحرم تراه من مسجد عائشة أو من [ ص: 331 ] الميقات - أو المقام بمكة والطواف بقدر ما تعبت ، أو الخروج إلى الميقات للعمرة ؟ فقال : يروى عن عائشة أنها قالت - في عمرة التنعيم - : " هي على قدر نصبها ونفقتها " فكلما كان أكثر من النفقة والتعب فالأجر على قدر ذلك .

وهذا نص بأن الخروج بها إلى الميقات أفضل ، وأن ذلك أفضل من المقام بمكة .

وقال - في رواية أبي طالب - قال الله عز وجل : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وقالت عائشة : إنما العمرة على قدر سفرك ونفقتك ، وقال عمر رضي الله عنه للرجل : اذهب إلى علي رضي الله عنه فقال علي : أحرم من دويرة أهلك .

وقال طاوس : الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون ؟ قيل له : فلم يعذبون ! قال : لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ، [ ص: 332 ] ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف ، وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير شيء ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة : " ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " .

وعن علقمة - في العمرة بعد الحج - : هي بحسبها ، قالت عائشة : " له من الأجر على قدر نفقته ومسيره " رواه سعيد .

فعلى هذا يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها : أن يخرج إلى أقصى الحل وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل ، وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع ، وكذلك قال أبو بكر : العمرة على قدر تعبها ونصبها ، وبعد موضعها ونفقتها ، وأن ينشئ لها قصدا من موضعه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " كلما تباعد في العمرة فهو أعظم أجرا " .

وظاهر هذا يقتضي أن المستحب أن يتباعد فيحرم من الميقات الشرعي ، وهو أفضل من إحرامه من أدنى الحل .

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما : المستحب أن يحرم بالعمرة من الميقات الشرعي على ظاهر كلامه ، قال في رواية صالح : والعمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف ، ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف .

[ ص: 333 ] واحتج من اختارها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمر عائشة من التنعيم .

وقال القاضي : يستحب الإحرام من الجعرانة ، فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم فإن فاته فمن الحديبية .

وكذلك ذكر ابن عقيل إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا ، وعمدة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر من الجعرانة ، واعتمر عمرة الحديبية وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم ، فخصت هذه بالفضل ، وكان أفضل هذه المواقيت .

وقال أبو الخطاب : الأفضل أن يحرم من التنعيم ، فأما الاعتمار من الحديبية فلا فضل فيه على غيره ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر من الحديبية قط ، وإنما اعتمر من ذي الحليفة ، فلما صده المشركون حل بالحديبية من إحرامه ، وكذلك الجعرانة ليس في خروج المكي إليها بخصوصها سنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر من مكة قط ، وإنما أعمر عائشة رضي الله عنها من [ ص: 334 ] التنعيم في حجة الوداع ، وإنما اعتمر من الجعرانة لما قسم غنائم حنين لأنها كانت الموضع الذي أنشأ منه العمرة وهو دون المواقيت فينشئ العمرة من موضعه ، ولا يقاس بهذا أن يخرج المكي إلى ذاك الموضع فيحرم منه .

وإنما السنة في الخروج إلى الحل من أي الجوانب كان لكن جهة بلد المعتمر ... .

وإن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم : فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات فلا يجوز له ذلك ، وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه .

ولا يسقط الدم بخروجه إلى الحرم ، كما لا يسقط الدم بعوده إلى الميقات إذا أحرم دونه ، لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته ، وإن لم يخرج إلى الحل حتى طاف وسعى وقصر : ففيه وجهان خرجهما القاضي وغيره :

أحدهما : أنه لا يعتد بطوافه وسعيه ، بل يقع باطلا لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج .

ولأن الحل لو لم يجب إلا لأنه ميقات لكان من إن شاء العمرة دونه تجزئه [ ص: 335 ] كمواقيت الحج ، ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن تخرج إلى الحل فتهل بالعمرة : علم أنه لا بد أن تكون العمرة من الحل .

فعلى هذا وجود الطواف وما بعده كعدمه لا يتحلل بذلك ، بل عليه أن يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك ، فإن قصر رأسه كان بمنزلة من قصر قبل الطواف فعليه دم ، وإن وطئ لاعتقاده أنه تحلل كان كمن وطئ قبل الطواف فتفسد بذلك عمرته وعليه دم الإفساد ، وإتمامها بالخروج إلى الحل والطواف بعد ذلك وقضاها بعد ذلك .

والثاني : وهو المشهور وهو الذي ذكره أبو الخطاب وغيره : أن العمرة صحيحة ، وعليه دم لما تركه من الإحرام من الميقات لأن من ترك من نسكه شيئا فعليه دم ، لأن أكثر ما فيه أنه ترك بعض الميقات وهذا لا يفسد الحج ، وإنما يوجب الدم .

ابن أبي موسى : ومن أراد العمرة من أهل مكة : فليخرج إلى أقرب الحل فيحرم منه ، ومن كان بمكة من غير أهلها ، وأراد العمرة الواجبة : فليخرج إلى الميقات ليحرم بها ، وإن لم يخرج إلى الميقات وأحرم بها دون الميقات أجزأته وعليه دم ، كما قلنا فيمن جاوز الميقات غير محرم ، ثم أحرم بالحج : إن عليه دما .

التالي السابق


الخدمات العلمية